• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

أخطر ما جرى لمصر منذ الانقلاب هو هذا العبث المفاهيمي الذي فرّغ كل الأشياء والقيم من معانيها ومضامينها الحقيقية، فرأينا تعريفاتٍ مختلة وفاسدة للوطن وللثورة وللدين وللعروبة وللإنسانية. 

لم يكن كل ذلك مصادفة، أو وليد أخطاء عفوية، مصدرها الغباء وانعدام الفهم وسوء التقدير، وإنما كان مدروساً ومنهجياً ومقصوداً في ذاته، وهو ما اصطلح عليه سوسيولوجياً بتغيير منظومة القيم والقواعد الحاكمة للسلوك الجمعي العام، في حركة المجتمع، باتجاه الخارج والداخل. 

خارجياً، كان العبث الكامل في جوهر وجود الدولة المصرية، من خلال تبديل القيم المؤسسة لعلاقاتها بمحيطها، فتم إدخال العدو التاريخي دائرة الصديق والحليف، بل والراعي الرسمي. وفي المقابل، صار الأشقاء، وفقاً للخطاب الرسمي والإعلامي، هم العدو وهم الخطر وهم منبت الشر المحيط بأمةٍ غارقة في عبثيتها.. 

وهكذا وجدنا النظام الرسمي يباهي بأنه يحظى بشهادات حسن السير والسلوك من الأعداء التاريخيين، ممعناً في الانسلاخ التام من الهوية القومية والحضارية، ليتحول خادماً مطيعاً لدى الأقوياء النافذين. داخلياً، كان الأمر أكثر فداحةً وكارثية، إذ احترقت قيم الإنسانية والعدل والمساواة والمواطنة والحرية والديمقراطية والثورة، وغيرها من مصطلحات ومفاهيم، صار ينظر إليها باعتبارها نابيةً ومشينةً وضارة بالوطن، وتمثل تهديداً للأمن القومي. 

أتوقف هنا عند مفهوم المواطنة المستحقة، وتعريف المواطن الصالح، بميزان دولة عبد الفتاح السيسي، بحيث صار نموذج المواطن الصالح هو الموافق على طول الخط، القابل بالإهانة وللظلم ولانتهاك آدمية رافضي جنون السلطة، والراضي بالفقر والجوع والمرض، من دون أن يحرّك ساكناً، أو ينطق بكلمةٍ، كي لا ينهار الوطن. 

هنا، يصبح المعارض والمعترض والمختلف والرافض هو الخائن، العميل، الطابور الخامس، الإرهابي، الشرير، ويستحق الطرد من جنة المواطنة (الفاسدة) وتجريده من هويته وانتمائه، وإسقاط الجنسية عنه، وانتهاك سمعته، وافتراسه عبر الأبواق الموغلة في توحشّها، والاستيلاء على ممتلكاته الشخصية. 

في أزمنة العبث والاستقالة من المنطق والقانون والأخلاق، يتسيّد الكهنة المزيفون، ويحتكرون الكلام باسم الوطن والوطنية، فيصبح كل مهرّج أفاق معياراً وحكماً، يمنح نفسه حقّ نفي وطنية المختلفين مع السلطة التي تطلقه على خصومها، مستفيداً من وضعية "المواطن الصالح النموذجي"، مختبئاً في أحراش الوطنية الفاسدة من فساده السابق، فيجد من يصغي إلى طلباته بتجريد هذا من جنسيته، وطرد ذاك من مملكة المواطنة المستحدثة. 

ثلاث سنوات من الاحتفاء بدعاوى محاميي الوطنية السيسية لإسقاط الجنسية عن مجموعة من رافضي الانقلاب، ومقاومي عملية حرق الحلم المصري الذي خرج إلى النور في يناير/ كانون ثاني 2011، حفلات تحريض ومهرجانات سباب واتهامات بالخيانة والعمالة، منصوبة على الشاشات، وصفحات الجرائد، من دون أن يتذكّر أحدٌ أن هناك دساتير تشدّد على أن الجنسية ليست منحةً من الحاكم، يعطيها لمن يشاء ويسحبها ممن يشاء. 

وأخيراً، وبعد هذه السنوات من الاستباحة للسمعة الشخصية والطعن في الشرف الوطني، تنهي محكمة القضاء الإداري في مجلس الدولة واحدةً من كثير من هذه الدعاوى الهزلية، لواحد من حرّاس معبد الفاشية، بإسقاط الجنسية عن الدكتور يوسف القرضاوي، وعدد من الإعلاميين، من بينهم كاتب هذه السطور، وتوقف نظر الدعوى، استناداً إلى تقرير تاريخي من هيئة المفوضين، يوصي بعدم الاعتداد بهذا العبث، ويقول نصاً "إن قبول مثل هذه الدعاوى سيمثل تهديداً للحق الذي أحاطه المشرع بالعديد من الضمانات، حتى لا يكون عرضةً للإسقاط أو العبث من أي شخص ضد غيره من المواطنين". 

يتضاعف الإحساس بالألم والحسرة على وطنٍ اختطفه عابثون، حين تجد من يرسل لك تهنئة بهذا القرار، وكأن انتماءك لوطنك صار مرهوناً برغبة مغامر، يملأ فراغه الإنساني والقيمي بمثل هذا النوع من دعاوى وادعاءات الوطنية العابثة، ويلقى رعايةً كاملةً من سلطةٍ لا تعرف للوطن حدوداً جغرافية، ولا عمقاً تاريخياً، ولا هوية حضارية وإنسانية، تتناقض بالضرورة مع تلمود الجنون والعبث الذي يحكم به هؤلاء.

أضف تعليقك