• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

عاد صديقى الـمُحبَط لطرح أسئلته التى عجز عن الإجابة عنها، متهكمًا تارة، مغمومًا تارة أخرى، داعيًا إلى العزلة والانكفاء على الذات، بعدما رأى -حسب فهمه- شحًا مطاعًا وهوًى متبعًا وإعجاب كل ذى رأى برأيه، وبعدما -حسب رأيه أيضًا- أزفت الأزفة التى ليس لها من دون الله كاشفة.

لا أنكر أن صديقى هذا لا يزال متحمسًا، غيورًا على دينه، مشفقًا على أتباعه، لكنه زائغ البصر من هول ما رأى، مثلما وقع لإخوانه يوم وقعة الأحزاب، لكنه لم يفق كما أفاقوا، ولم يقل مثلما قالوا؛ إذ لما رجعوا إلى أنفسهم وتجاوزوا الصدمة حيث بلغت القلوب الحناجر قالوا؛ هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا.. وفيهم نزل قول الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} [الأحزاب: 23].

قال صديقى: كل يوم نرى فرقة، ونسمع نزاعًا وقد تفرق الدم وضاعت القضية؟!

قلت: لم تضع القضية، ولن تضيع، وهب أن أولياء الدم فرطوا فى دماء ذويهم. فهل تعتقد أن ما عند الله يضيع؟! كلا يا صديقى، إن ما تراه من فرقة ونزاع إن هو إلا تصحيح للمسار، وتنقية للصف، ودرءًا للفتن القاصمة، وفى الوقت ذاته فإن الله -تعالى- يهيئ أرضًا أخرى وخلقًا آخرين ليتسلموا عبء المهمة ومسئوليات الطريق، وهم إما ممن خاضوا الاختبار واجتازوه، أو أناس جدد رأى الله فيهم ميزة على من فرطوا أو تنازعوا أو فشلوا. لكن ثق أن أمتنا لن تضيع، وأن الإسلام ماض فى طريقه كالنهر الهادر، لا يعوقه حجر ولا شجر ولا بناء ولا بشر، وسوف يغزو الأرض، ويدخل كل بيت، بنا أو بغيرنا.. و{إِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].

قال صديقى: يا أخى!! انظر: كل يوم هناك انكسارات وهزائم، ولا نرى فى الأفق منفذًا لانتصار أو حتى نهوض من انكسار؟!

قلت: لأنك ترى العالم من منظارك الأسود، ومن قلبك المشحون بالعواطف غير المنضبطة، فإن للقلوب نزوات يجب أن نلجمها بنظرات العقول -كما قال الصالحون- وإن من العقل العدل بين الأشياء، فكما تجتمع لديك السلبيات بهذه الكثرة، فلتجتمع لديك الإيجابيات كذلك، فما خاب من عدل، وما ضل من انفسح لديه الأمل وأحسن الظن بالله، فمن آمن بمولاه وأمعن النظر فى كتابه الكريم أيقن أن الباطل لا ينتصر أبدًا، وأن الحق هو المنتصر، وأن ما تراه من علو الباطل وانتفاش الفحش إن هو إلا سحر ساحر؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب.. والله يا صديقى إنى لأرى انتصارات -كل ساعة- قد لا تراها عيناك وقلبك، ولو لم يقع ما وقع ما رأيناها وما سمعنا بها.

قال صديقى: وما هذه الانتصارات يا ملهم؟!

قلت: أول الانتصارات: أنت نفسك. إنك وُضعت على المحك. كنت فيما مضى تعيش مثل باقى البشر، تتبع طريقهم وتخوض خوضهم. الآن تراجع حياتك بكاملها، وفى النهاية سوف تعود خلقًا آخر، له فلسفة فى الحياة، وعقيدة فى العيش والممات، ومبادئ لا تهزمها انكسارات، وثبات على الفكرة.. وقس على ذلك ملايين كانوا يعيشون كما تعيش، ويخوضون كما تخوض.

ثم إن الهزيمة أو النصر يا صديقى ليستا بأن يتمكن طرف من رقاب الطرف الآخر فيلويها أو يقطعها، أو يرغمها على غير ما تحب، إنما النصر هو أن يغلب طرفٌ طرفًا آخر، فيكون الأخير تبعًا له، مقتنعًا بمبادئه وأفكاره، معتزًا بعقيدته ودينه.. لكن ما يحدث الآن إن هو إلا جولة من جولات، ودولة من دول، والباطل إن غلب فى واحدة يستحيل أن يغلب فى أخرى؛ ذلك أنه زهوق، لا مبدأ له، أتباعه أصحاب المصالح عبيد الأموال والشهوات، الذين لا يضحون، ولا يبذلون ولا يجاهدون.

قال صديقى: ما سألتك إلا أجبتنى، لكن بقى سؤال لم تجب عنه: متى ننتصر؟!

قلت: ننتصر عندما تطرد الإحباط من قلبك، وعندما تفعل كما فعل الرسل الذين لاقوا ما لاقوا فلم يثنهم ذلك عن استكمال رسالاتهم وقطع الفلاة حتى الوصول إلى غاياتهم، وفى سنة الحبيب: «إذا قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها».. وهل هناك يا صديقى أدهى وأمرّ من الساعة؟!

أضف تعليقك