• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

كانت تكره أن تنشغل المرأة المسلمة بالأمور الهامشية والجدلية والفرعية والتي لا ينبني عليها عمل, وتتألم عندما تكثر الأسئلة عن حكم الاكتحال أو ترقيق الحواجب أو طلاء الأظافر أو ارتداء النقاب والقفازات, وغيرها من الأسئلة التي ينشغل بها البعض كثيرا على حساب ما هو أهم من قضايا الأمة ونهضتها وبناء مجتمعها.

كانت تنظر إلى الجوهر والقلب, قبل أن ترى المظهر والصورة.. كانت ترى أن تغطية الوجه (النقاب) ليس مرفوضاً وليس مفروضاً, وهو نفس الرأي الذي أعلنه الأزهر الشريف.. كانت تتجنب الرد على التساؤلات الفقهية ـ رغم علمها الواسع ـ في ثلاثة مجالات وهي: الطلاق والرضاع والميراث, وكانت تحيل السائل أو السائلة إلى الأزهر الشريف, أو إلى أحد الفقهاء المعروفين, تورعاً عن الوقوع في الخطأ.

كانت الداعية المجاهدة صاحبة مظهر جميل وجذاب, ثيابها بيضاء ناصعة, وهندامها متناسق, وذوقها رفيع, وغرفتها في البيت طاهرة معطرة, جعلت منها مسجداً صغيراً لأداء الصلاة والاعتكاف وقراءة القرآن وصلاة الليل, يخلع المرء حذاءه قبل أن يدخل لأمر ضروري, فيجد الغرفة وقد رتبت ترتيباً بديعاً, وتفوح منها الروائح الذكية, ولا تستقبل فيها إلا صديقات معدودات فقط, تفيض من كرمها عليهن بالدخول إلى غرفتها الخاصة.

وقبل أن تجلس إلى مائدة الطعام في بيتها, كانت تسأل عن خدم البيت: السائق والشغالة والسفرجي والجنايني.. هل تناولوا الغداء؟ فإن تأخر الطعام قامت بنفسها لتقدمه لهم!

ورغم انشغالها في العمل الدعوى, إلا أنها كانت كثيرة الصلاة والصيام, ولا يمر يوم إلا وتقرأ وردها اليومي من القرآن الكريم وهو أكثر من ثلاثة أجزاء, ترتفع إلى عشرة في شهر رمضان من كل عام.

كانت الداعية الربانية تتضرع إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء, كأنها تحمل فوق رأسها ذنوب الدنيا كلها, وتبكى من شدة التأثر وهى واقفة بين يدي الله, وكانت تقول: إن الداعية الذي يبحث عن القبول والتأثير والاستجابة بين الناس, عليه أن يبحث عن القبول والرضا من الله أولاً, ويجب أن يكون له علاقة خاصة بينه وبين ربه, من ذكر واستغفار ودعاء وتضرع وقيام ليل ومناجاة, فالأمر ليس بكثرة العلم أو بجمال التعبير أو بقوة الفصاحة أو بحسن العرض, ولكنه أولاً بالقبول والتوفيق من الله سبحانه وتعالى.

كانت ترى أن التدين الصحيح أساسه مراقبة الله سبحانه, ومداره الحب والود والأخوة, وصورته البساطة والكلمة الطيبة وسعة الصدر والقدرة على الصبر والتحمل والمجاهدة.. التدين الصحيح هو التواضع لله عز وجل, والتواضع بين الناس, وحسن الصلة بهم والإشفاق عليهم من الانحراف عن طريق الله سبحانه وتعالى.. التدين الصحيح هو التسامح والتواد والتواصل والتراحم والتكافل..التدين الصحيح هو صدق التوجه نحو طاعة الله في السر والعلانية, وفي السر أكثر عندما تنام العيون وتسكت الألسنة وترتاح الأجساد وتهدأ الأنفاس, فيهب صاحب الإيمان اليقظ إلى مناجاة ربه ومولاه سبحانه..التدين الصحيح ليس هو القلب القاسي والوجه العابس والاستعلاء المزيف على الخلق, وليس هو التكبر والغرور وإشعار الآخرين بهبوط منزلتهم وقلة علمهم وسوء مصيرهم..التدين الصحيح هو الفطرة السليمة إذا مستها روح الإيمان وقوة اليقين بالله وسمو المعرفة به سبحانه وتعالى.. هكذا كانت تفهم زينب الغزالي دينها, وهكذا كانت تدعو إليه على بصيرة.

تأثرت بمنهجها الدعوي الرباني الوسطي, ونظرتها الاجتماعية الواعية, وخلقها العالي الرفيع, وصبرها الطويل الجميل, وصمودها الصخري الشامخ, واعتزازها الهائل بدينها ودعوتها, ويقينها الواثق من انتصار دعوتها ورسالتها.

عاشت زينب الغزالي لله قلباً وقالباً, تستعذب الصعاب والآلام والمتاعب مادامت هي الطريق الصحيح لإعادة المسلمين إلى دينهم, صبرت وضحت وبذلت ولم تضعف أو تستكين أو تستعجل الثمرة, عاهدت الله منذ نعومة أظفارها أن تكون له وحده, وأن تسعى لإرضائه حباً فيه وحباً في رسوله صلى الله عليه وسلم, وإيماناً بأنه لا صلاح للبشرية إلا بسيادة الإسلام وتطبيق مبادئه.. لم تقترب من السلطان طمعاً في مغنم أو خوفاً من بطش أو رغبة في أمان, بل كانت تعيش بقوة الحق, وشموخ الغاية, وعزة الإيمان, وهي على قناعة بالآية الكريمة: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون).

آمنت بمنهج الإخوان المسلمين, وسرى في عروقها مسرى الدم والنفس, بوسطيته واعتداله وعمق رابطة الأخوة فيه, ووضوح منهجه في الدعوة إلى الله, وثقة في القادة الذين يحملونه, وانطلقت تحلق في آفاق الدعوة, وتضع نصب عينيها واقع الأمة الإسلامية وموقعها في العالم كله, فلم تكن محدودة الوطن بل انطلقت إلى العالمية فعرفتها الأمة بأسرها, بل ربما كانت مشهورة في بعض البلدان أكثر من شهرتها في وطنها مصر!

كانت المجاهدة الكبيرة رائدة في العمل الإسلامي, ليس على مستوى المرأة المسلمة فقط, ولكن على المستوى الإسلامي كله, وفتحت بيتها لكل العاملين للإسلام, ورغم الصعوبات والضغوط والعراقيل.

كانت زينب الغزالي ـ وستظل بإذن الله ـ النبراس الذي يضئ طريق الداعيات إلى الله, على منهج رسول الله (صلى الله عليه وسلم), والآن جاء دور تلامذتها ومحبيها والعارفين فضلها, لينشروا هذا النور ويعمقوا هذه المعاني التي عاشت لها داعيتنا الكبيرة.

أضف تعليقك