• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

لا نمل من الحديث عن أصداء تجربة انقلاب الثلاثين من يونيو 2013 على أرواحنا وأجسادنا، ما دامت التجربة ماثلة لم تحل عقدتها، وما دامت آثارها ممتدة لم يَعْفُ رسمها، وحريٌّ بهذا الحدث أن يظل علامة فارقة في حياة كل من عايشه، يمكن الحديث والتفلسف حول تجاوزه، لكن نقل هذا إلى حيز الفعل أمر كان وسيظل إلى وقت غير قريب صعب المنال على الكثيرين.
وكيف يستطيع أن يحل عقدة التجربة في ساحة الفعل من لا يستطيع أن يحل عقدة لسانه في ساحة القول ليحكي عن كثير من أجزائها؟!
من أقصى المضار التي لا عوض فيها، إلى أدنى ضرر معنوي يمكن التأقلم على الحياة معه، أكسبنا انقلاب الثلاثين من يونيو 2013 الكثير من العادات والطباع، وأفقدنا الكثير من العادات والطباع مع ما استلبه منا من الأرواح والأحلام سرًا وجهرًا، ولا أعلم متى سيمكننا استعادة هذه المستلبات، وعلى أي حال ستكون حين نستردها.
سلبت منا تجربة الانقلاب في مصر -مع ما سلبته- حريتنا في الحكي، واجتراح الذكريات، فترة المطاردة داخل مصر التي امتدت لـ 10 شهور أو تزيد بعد فض رابعة ألزمتني الكتمان في كثير من أموري قبل مغادرة مصر، وصبغتني بتلك الصبغة في الكثير من سلوكي بعدها.
يوم نجحت في مغادرة مصر بطريق غير رسمي لم يعلم أحد بخطواتي إلا صديق واحد تولى أمر مساعدتي، لم أخبر أمي بالأمر فضلًا عن أن أوفيها حقها في لحظة وداع لابنها البكر الذي يغادر بلده إلى مصير لم يكن معلومًا أينتهي بالنجاة أم بالموت، لكن لقاءًا لاحقًا مع أمي في تركيا بعد سنة أصلح بعضًا مما شقه فراق غير ذي وداع في مصر، غير أن أشكالًا أخرى من الفراق لم يسعفها لقاء ولا حتى كلمة نعي أو رثاء أو بث شكوى!.
في المسافة بين الثلاث سنوات والأربع سنوات اللائي انقضين منذ انقلاب مصر، تتراكم الذكريات والوجوه والعلاقات، ويضيق متنفس الحكي أو التسجيل لما جرى ويجري في كثير من الأحيان، إذ أن الكلمة غدت دليل اتهام ومسوغ عقاب حقيقة لا مجازًا في الدولة المصرية ذات السبعة آلاف سنة من الحضارة والسجون وتتابع العساكر.
لا أستطيع الآن أن أحكي عن هؤلاء الذين عايشتهم، وتعلمت منهم، وحملت فضلهم في العنق والجسد، بل والجيب وحافظة النقود.
هذا الغريب الذي آواني في بيته شهورًا في 2013 و 2014 حتى غادرت مصر، الذي لم أكن أعرفهم ثم صرنا أصدقاءً مقربين، وكيف لا أصادق من قبل في بيته غريبًا مطاردًا على شفا الاعتقال ليعرض نفسه للاعتقال المجاني بالتبعية في سجون من لا يرقبون في إنسان إلًّا ولا ذمة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا؟ 
وهؤلاء الغرباء الذين لم يترددوا في استقبالي إثر اتصال من صديق مشترك في إحدى ليالي نوفمبر 2013 ليجعلوني جزءًا من بيت أسرتهم التي لم يجمعني بهم لقاء من قبل، فيمنون على هذا المريض المحموم بالرعاية الصحية، والطعام والشراب وفراش العافية، ويستدعون طبيبهم الخاص في منتصف الليل ليعالج محمومًا لم يسألوه كم ستلبث بيننا، ولم يكونوا ليسألوه سواء لبث بعض يوم أو مائة عام
لم تكن السنوات الثلاث مقتصرة على الغرباء الذين صاروا أصدقاءً، بل كانت بطبيعة الحال مشتملة على الأصدقاء القدامى الذين أعدت اكتشافهم وصاغتهم المحنة أخلاقًا جديدة تمنح، ومعادن خيرة تبذل 
أصدقاء كُثُر لا أستطيع حتى رد الجميل إليهم بالقول، أو إبداء التقدير تجاه ما يقدمونه، أو توثيق أدوارهم التي لعبوها أو حاولوا لعبها في دفع الضر عن الناس، وفي رد المظالم، ورعاية المقهورين ما استطاعوا.
لن يكون آخرهم فيما يبدو صديقي المقرب الذي كفلني طيلة مقامي في مصر من ماله الخاص مدة 10 شهور لم أكن أقدر فيها على التجول بالشارع بحرية أو الذهاب لعملي بوزارة الصحة المصرية خشية الاعتقال حتى فُصلت من العمل، وهو الذي يصغرني عمرًا وله أسرة وأبناء وأخ معتقل، والذي أهداني هاتفي المحمول الذي ربما سأستخدمه لقراءة التعليقات على هذه التدوينة أو مشاركتها عبر حساباتي، صديقي الذي اعتُقل مؤخرًا وقضيت أوقاتًا أفكر هل أكتب عنه بشكل شخصي أم أجنِّبَهُ أن تصبح كلماتي مسوغ اتهام، أو خيط أسئلة لمحقق بلا قلب لن يدخر وسعًا في استخراج تفاصيل تلك الحكايات بالقبضات والأقدام والعصي والصواعق الكهربائية؟!
في دولة غدا فيها الحب والعلاقات الإنسانية تهمًا تستوجب العقوبة، أو كما صورها تميم البرغوثي في قصيدته :
يتهموا أصحابي بيَّا، مش أنا بيهم
واضُرلي ستة سبعة أكون في وسطيهم!
- اضطربت علاقتي بالمجاز كثيرًا خلال تجربة الثلاث سنوات، صرت أتحفظ ضد استخدامه لوصف واقع أثقل من أن يجمله المجاز، وتجميل تجربة أشد وقعًا من أن يخففها الجناس أو الاستعارة، لكني أجدني مدفوعًا له دفعًا إما لوصف تلك الحالة من الصمت الاضطراري، أو للتحايل عليها، لأستطيع الحكي عمن لهم في عنقي دين الوفاء قبل أن يكون لهم دَيْنُ الحكاية
لكن كيف يمكن أن نَصِفَ ،دون المجاز، تحول الذكريات الشخصية العادية إلى تهم حقيقية في دولة لا ترحم أحدًا ولا يفهمها أحدٌ؟!
كنا نقرأ تعبيرات أحمد مطر في قصائده ونعاملها من قبيل مبالغات الشعراء والأدباء للتعبير عن الواقع بقصص مخترعة، حتى عشنا قصصًا أبعد من خيالات الشعراء في تجربتنا التي لم تضع أوزارها بعد، فأجد هذا النص الآن ليس مبالغة شاعر في السخرية، أو تجاوز أديب في التوصيف: 
فكرت بأن أكتب شعراً
لا يهدر وقت الرقباءْ
لا يتعب قلب الخلفاءْ
لا تخشى من أن تنشره
كل وكالات الأنباءْ
ويكون بلا أدنى خوفٍ
في حوزة كل القراءْ
هيأت لذلك أقلامي
ووضعت الأوراق أمامي
وحشدت جميع الآراء
ثم.. بكل رباطة جأشٍ
أودعت الصفحة إمضائي
وتركت الصفحة بيضاءْ!
راجعت النص بإمعانٍ
فبدت لي عدة أخطاءْ
قمت بحك بياض الصفحة..
واستغنيت عن الإمضاءْ!
أود أن أعتذر لكل أصدقائي الذين عرفتهم لأول مرة خلال تلك الفترة، والقدامى الذين أعدت اكتشافهم، عن بياض تلك الصفحات من الذكرى التي حُقَّ لهم أن يستوطنوها ذكرياتِ بر، وحكايات منحٍ ومعروف، لكن هذا الوطن لم يكتف بسد أفق الحاضر والمستقبل، بل حاصرنا أيضًا في الذكرى، وألزمنا الصمت تجاهها
فلربما استقبلنا من عمرنا أيامًا أكثر أمنًا من التي استدبرناها والتي نصاحبها، فنوفي لأصحاب الحكايا حكاياهم، أو نبث لأبنائنا قصصًا عن آبائهم الذين ادخروا لهم حكاياتٍ بسيطة لم تسمح بها أوطانهم!.

أضف تعليقك