• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

لقد دأب البعض على استعمال الإرهاب الفكري في انتقاد بعض تصرفات القائمين على العمل الإسلامي الدعويّ، بزعم أنها مخالفة للمنهج الصحيح، أو أنه لا عصمة لأحد، ولا أحد فوق المراجعة، وأنه الحق الذي يدين به، أو انطلاقا من مسؤوليته أمام الله، واتخاذ المواقف التي تُرضِي ضميره، ويَرضَى اللهُ عنها، وأنّ انتماءه للإسلام قبل أي انتماء آخر، وأنه لا يداهن في دين الله، وإذا ما سكت عن الأخطاء فإنها سوف تتوسع وتستفحل وتستعصي على العلاج ... أو ما شابه!!  
أقول هذا الكلام بمناسبة ما أثاره البعض حول قيام الجماعة الإسلامية في لبنان بتقديم التهنئة للإيرانيين بثورتهم.
إنه لا أحد ينكر أن جنايات الشيعة بحق الإسلام والمسلمين لا تقل إجراما عمّا تفعله إسرائيل وأمريكا وروسيا والصين وغيرها من دول الكفر بالمسلمين في بلدانهم.

ومن المعلوم أن المؤمن لا يكون ولاؤه إلا لله تعالى ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللمؤمنين ، كما قال الله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55].
والولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم ونصرتهم لإيمانهم، والنصح والدعاء لهم ، وغير ذلك من حقوق، والبراء من الكفار يكون ببغضهم، وعدم الركون إليهم، أو التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم، ونحو ذلك من مقتضيات العداوة في الله، مع معاملتهم بالعدل، والوفاء بالعهد، والأمانة وعدم الغش، قال الله تعالى: { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة: 8] .
ولكن ينبغي القول بأن من قواعد الشريعة التي لا تخفى على أولي العلم والفهم: دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، واختيار أهون الشرّين، ولا يعد ذلك إقراراً لذلك الضرر الأصغر، أو الشر الأقل، بل ذلك هو الواجب على المسلم؛ أن يقلل الشرّ بقدر المستطاع وأن يصلح بقدر المستطاع – {فاتقوا الله ما استطعتم}، {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت} - وإن استلزم ذلك الوقوعَ في شيء من الشر.

 وفى ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكذلك إذا اجتمع مُحَرّمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال مُحَرّماً في الحقيقة، وإن سُمِّي ذلك تركَ واجب، وسُمِّي هذا فعلَ محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، و يقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، و فعل المحرم للمصلحة الراجحة، أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم – إلى أن قال –: وهذا باب التعارض باب واسع جداً، لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة، وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل . ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب، وإن تضمن سيئات عظيمة، و أقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء (الفتاوى 20/57 – 58).
 ويقول في موضع آخر: وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات (مجموع الفتاوى، 10/512( .
روى البخاري عن عروة بن الزبير قال: أخبرني أسامة بن زيد - رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب َ حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكية، وأردف وراءه أسامة بن زيد، وهو يعود سعد بن عبادة، في بني الحرث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخالط من المسلمين، والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، وفيهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلسَ عجاجةُ الدابَة خمَّر عبد الله بن أبيٍّ أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أبيّ بن سلول: إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. قال ابن رواحة: اغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. فاستب المسلمون والمشركون واليهود، حتى همُّوا أن يتواثبوا. فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا. ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال: أي سعد، ألم تسمع ما قال أبو حُباب - يريد عبد الله بن أبيّ – قال كذا وكذا قال: اعف عنه يا رسول الله واصفح، فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحرة – أي القرية - على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما ردَّ الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه صلىالله عليه وسلم).
 ومع ذلك ماذا فعل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
جاء في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن عبد الله بن أبيّ لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه واستغفر له، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فقال آذنّي أصلي عليه، فآذنه فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه فقال أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين؟ فقال أنا بين خيرتين، قال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} فصلى عليه فنزلت: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره}.

 بل إنّ هناك حالات يجوز فيها للمسلمين ـ إذا كانوا في حالة ضعف ـ عقد هدنة مع الكفار على مال يدفعه المسلمون لهم، وإن كان الأصل أنه لا يجوز ذلك، لأن المسلمين هم الأعلون، ويجب أن يحافظوا على عزتهم وعلو شأنهم، لكن قد تنزل بالمسلمين نوازل فيها من الابتلاء والفتنة، ما لا طاقة لهم به، بحيث لو لم يبذلوا المال لعدوهم لأنزل بهم أشد الضرر، من قتل رجالهم وسبي نسائهم، وهدم منازلهم، وإفساد مزارعهم، وتسميم مياههم ... ففي هذه الحال يجوز للمسلمين أن يعقدوا مع عدوهم الهدنة على مال يأخذه منهم، بشروط تحقق لهم ما أمكن من دفع الفساد الذي قد يصيبهم، إذا لم يوافقوا على الهدنة بمال يأخذه منهم العدو، لأن إعطاءه المال أخف ضررا، من إزهاق أرواحهم وانتهاك أعراضهم.
 والدليل على ذلك ما كان يريد فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، من الصلح يوم الأحزاب، من موادعة عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان، ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهم عنهم، ولقاعدة الضرورات تبيح المحظورات . 

قال المهلب: "إنما قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين، لسبب حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة حين توجه إليها فبركت، وقال: حبسها حابس الفيل ـ على ما خرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة ـ، ودل على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم إذا رأى ذلك الإمام وجها.  
فمثل هذه التصرفات تخضع لتقدير القيادة، والتي غالبا ما تقوم على الشورى، كما تفعل حماس في بعض التصرفات، مع الإيرانيين مثل التعزية في بعض موتاهم، أو التهنئة بثورتهم البائسة أو ما شابه ذلك، وعندما عاتبنا حماس في ذلك قالوا لنا: لقد قدموا لنا مساعدات في الوقت الذي تنكّر لنا فيه قومنا من بني جلدتنا، وساعدونا في أمور عسكرية كثيرة ليس من المصلحة الإفصاح عنها.
 ومن هذا أيضا ما فعلتْه الجماعة الإسلامية في لبنان؛ فإنه يخضع للمصلحة والمفسدة التي لا علم للمعترضين بها، وقد لا يصلح الإعلان عنها.
وقد بقيت حماس في سوريا بعد طردها من الأردن وأفادت من النظام النصيري فوئد كبيرة ، فلا يجب التسرع بإصدار الأحكام وإلقاء التهم جزافا هكذا.

من حق مَن يعترض أن يرفض هذا التصرف، ومن حقه تقديم النصح، لكن ليس من حقه أن يحتكر الصواب والحقيقة فيحكم بأن تصرف الجماعة الإسلامية تصرف مخالف للشرع قولا واحدا!!

أضف تعليقك