• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

ولا تزال الليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب، فكان الاتهام "بخدش رونق القضاء"، الذي وُجه لصحفي جريدة "الفجر" بجمهورية مصر العربية، هو عجيب ليالينا الذي لم تلده، ولكن أجهضت فيه في شهرها الثامن!.

من المؤكد أن الصحفي الشاب "طارق حافظ"، قد دخل التاريخ الصحفي من أوسع أبوابه، ليس لأنه نشر عملاً صحفياً يستحق عليه التحية، في بلد معادٍ لحرية الصحافة، ولكن لأنه أول صحفي، منذ أن عرفت مصر الصحافة، الذي يُوجه إليه هذا الاتهام الذي يتمثل في "خدش رونق القضاء"، بعد خمس عشرة ساعة قضاها رهن التحقيق في نيابة أمن الدولة العليا، ولم يكن بالتالي من وجه له الاتهام، هو وكيل نيابة حديث التعيين في نيابة جزئية، فالتحقيقات أجراها محقق قضائي خبرة في مجاله، ورفيع المستوى!.

كان الزميل "طارق حافظ" قد نشر تحقيقاً صحفياً مهماً، يؤهله للفوز بجائزة صاحب أفضل موضوع هذا العام، لولا أن الجهات التي تمنح الجوائز الصحفية، محكومة بالعلاقات العامة، حتى فقدت هذه الجوائز معناها!.

لقد نشر "طارق" بالمستندات، ما وصفه بـ "الانفراد"- وهو انفراد فعلاً وفق المعايير المهنية - حول تعيين أبناء القضاة والقيادات الأمنية بالنيابة العامة واستبعاد أوائل الكليات والمتفوقين. وكشف في تحقيقه الخريطة الكاملة للتوريث والمحسوبيات في هذا الملف، ورصد بالأسماء والمناصب أن 47 قاضياً ومستشاراً بمختلف الهيئات القضائية يورثون أبناءهم وأقاربهم "كعكة النيابة العامة" بنسبة 26 في المئة من التعيينات!

كما كشف في انفراده تعيين ضابط سبق اتهامه رسمياً بقضية التعذيب الشهيرة بالأقصر في النيابة العامة، والخاصة بالمواطن "طلعت شبيب"، حيث عذب المواطن المذكور حتى لقي حتفه من جراء التعذيب. وجاء في هذا التحقيق الصحفي المهم أن مستشاري محاكم الاستئناف استحوذوا على 28 مقعداً، في حين استحوذ قضاة محكمة النقض على 8 مقاعد، كما تم تعيين أبناء سبعة من الضباط والقيادات الأمنية الكبرى في النيابة العامة، الذين صدر بتعيينهم القرار الجمهوري رقم 166 لسنة 2017!

وكان يمكن أن يكون هذا الانفراد الصحفي المنشور يوم الخميس 20 أبريل الماضي، موضوع تحقيق، من أعلى سلطة في البلاد، وتقوم برامج"التوك شو" التي يشكو القائمون عليها الإفلاس بإثارة ما ورد فيه، كما كان ينبغي أن يكون موضوعاً أكثر من استجواب ضد وزير العدل، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، فالمعلومات المنشورة تقلق الدول، لكن في "أشباه الدول" يُعتبر هذا أمراً طبيعياً، وتعتبر إثارته انتحاراً، فهل لا يزال "طارق حافظ" يعيش وحده بخياله في مرحلة ما بعد الثورة، عندما سقطت "التابوهات"، ولم تكن هناك جهة فوق النقد والمساءلة؟!.

لقد اكتشفت أنني لا أعرف زميلنا "حافظ"، لكن صوره المنشورة على المواقع والصحف تشير إلى أنه من الجيل الجديد، فهل لم يصله نبأ أن ثورة مضادة قامت في مصر، عادت على إثرها "ريمة إلى عادتها القديمة"، وتحاول فيها مؤسسات الدولة العميقة إعادة وضع الأسلاك حول نفسها، فتجعل من مرحلة ما بعد الثورة مجرد ظرف استثنائي وجملة اعتراضية في تاريخها؟!.

لقد استدعت نيابة أمن الدولة "طارق حافظ" للتحقيق معه فيما نشره، واللافت أنهم لم يناقشوه في المنشور، فلم يكن لديهم ردود عليه، ولكن خمس عشرة ساعة من التحقيق المتواصل، وكأنه من قتل النائب العام، كانت بهدف وحيد هو معرفة مصدر معلوماته، وهو أمر كاشف عن المخالفة الواضحة للقانون، الذي يمنع الصحفي من كشف مصدره، ويعتبر الإفصاح عن ذكره على غير إرادته ما يسقط الثقة والاعتبار المهني، ويجعل الكاشف ليس جديراً بالعمل في الصحافة، وبما يخالف القاعدة المستقرة: "لا يُسئل الصحفي عن مصدره"!

ولم تكن هذه هي المخالفة الأولى للقانون وللدستور باعتباره القانون الأعلى، فقد تم إخلاء سبيل الصحفي من سراي النيابة بكفالة مالية، وهو أمر دأبت عليه النيابة العامة بعد الانقلاب العسكري، مع أن القانون أقر صراحة عدم جواز الحبس الاحتياطي في قضايا النشر، والكفالة هي بديل الحبس، لأن المتهم إذا تقاعس عن دفعها كان من الطبيعي حبسه احتياطياً

لقد نص قانون نقابة الصحفيين في المادة (67) على عدم جواز القبض على عضو نقابة الصحفيين أو حبسه احتياطياً، لما ينسب إليه بسبب مواد صحفية صدرت عنه أثناء ممارسة المهنة، وقد وضع استثناء من ذلك ليس من بينه الاتهام "بخدش رونق القضاء"!.

وجاء قانون تنظيم الصحافة الحالي في المادة (41) ليقر مبدأ عدم جواز الحبس الاحتياطي في الجرائم التي تقع بواسطة الصحف، وقيد الاستثناء، بأن هذا يجوز في الجرائم المنصوص عليها في المادة (179) من قانون العقوبات، وهى الخاصة بإهانة رئيس الجمهورية، ويلاحظ هنا أن الاستثناء ليس خاصاً بتهمة "خدش رونق القضاء"!.

وجاء الرئيس محمد مرسي ليعدل المادة السابقة بقرار جمهوري نص على إلغاء الحبس الاحتياطي للجرائم التي ترتكبها الصحف، وحذف الاستثناء الذي كان منصوصاً عليه في هذه المادة !.

ثم جاء الدستور الحالي ليمثل خطوة للأمام في هذا السياق فنص في المادة (71) على عدم توقيع عقوبة سالبة للحريات في الجرائم التي ترتكب بطريق النشر أو العلانية بشكل عام، وجعل هناك استثناء أحاله للقانون لكي ينظمه، وهو جرائم التحريض على العنف، أو التمييز بين المواطنين، أو الطعن في أعراض الأفراد !.

وهذا الاستثناء، لم يبح الحبس الاحتياطي الذي تم إلغاؤه تماماً، وليس من بين الاستثناء الذي ينظمه القانون تهمة "خدش رونق القضاء". ومن هنا فإن ما جرى مع زميلنا "حافظ" لا شأن له بالقانون وإنما يليق بتقاليد الدولة البوليسية التي عادت مع انقلاب عبد الفتاح السيسي!.

ولأنها المرأة الأولى في حياتي التي أسمع فيها عن الاتهام بـ "خدش رونق القضاء"، فقد ذهبت للمعاجم للبحث عن معنى الكلمة، فقرأت أنها تعني "حسن، وبهاء، وإشراق"، ومع أن الأمر دافع على الفكاهة إلا أنني أحجم حتى لا توجه لي تهمة "خدش رونق القضاء"، وأتكلم جاداً، فـ "طارق حافظ" لم "يخدش رونق القضاء" فقد خدشه عبد الفتاح السيسي برضوخه لأمر ترامب، لتحصل "آية حجازي" على البراءة، وبحكم قضائي هو عنوان الخدش لرونق القضاء !.

صباح الإشراقات.

أضف تعليقك