• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

سابقة مراهقةٍ سياسيةٍ نادرةٍ تواجه القاموس الدبلوماسي، وسابقة لم يشهدها الخليج إلا بعد جريمة التهكير وتوابعها من قطع العلاقات والحصار والادّعاءات الـ 13 واستمرار الكذب والتلفيق، رهبة من أمر ما.

بتنا، في أزمة الخليج، بين نموذجيْن في السياسة الدولية، بين الصبيانية والمراهقة السياسية، وبين الحكمة والنضج السياسي، فالتهور الذي بدا واضحا لدى دول الحصار لا يمكن أن يتساوى مع سياسة التروّي والدبلوماسية التي تمتعت بها دولة قطر. وهذا ما شهدت به إيفون رايدلي، في مقالها في “ميديل إيست مونيتر” في 24 يونيو/ حزيران الماضي، أترجم عنها:

كما وصفت رايدلي الاتهام بالإرهاب بـ “الادعاء الرخيص، لرميه جزافا، لأن إثبات هذا الادّعاء يصعب إثباته، فكلما عُمّم مفهوم الإرهاب، من دون تحديد، سهل إطلاقه على الجميع، من دون فريقٍ بذاته”. نتفق معها، بل وتتفق معنا، فالتعميم والتعويم في إطلاقهما ما هما إلا سياسة للابتزار وتحقيق المآرب.

يخطئ من يظن أن قطر كانت ستذعن للادعاءات التي سميت مطالب، إذ خلقت من رحم الابتزاز، بل وقفت قطر صامدةً أمام من يريد سلب سيادتها، وفوق ذلك كله سيادة حق حرية الرأي والتعبير الذي تمثله “الجزيرة”، وكأن قطر تؤكد أن الحصار الذي فرّطت فيه دولة بجزيرتين، وأخرى بثلاث، جعلها تزداد اعتدادا بجزيرة الرأي والرأي الآخر التي وقف كل العالم الحر معها من دون أولئك المستعبدين تحت أنظمة الاستبداد، فضلا عن تجربة قطر عندما تحولت، بفعل إغلاق المنفذ البري الوحيد، إلى جزيرة افتراضية، ضاعفت قوتها وتمسّكها السيادي بمفهومٍ عجزت عنه أشباه دول وشبه جزيرة، قيل إنها عربية أمام خنوع لإسرائيل، وهم يدركون مخطط التفتيت للمنطقة الذي تعتبر فيه هي وعرّابها المستفيد الأكبر.

لن أطيل في شرح غياب الدبلوماسية والحجة في الانتهاك الغاشم الذي ارتكبوه في 5 يونيو/ حزيران الماضي، ولا في طريقة تعاطي دول الحصار مع الوقت النهائي للمهلة المزمعة الإثنين الماضي (4 يوليو)، ولا في الاجتماع الذي حدّدته الدول سلفا لانعقاده في القاهرة يوم الأربعاء الماضي (6 يوليو)، أي بعد يومين من الموعد النهائي لتقديم بيانهم على رد قطر، والذي جاء الإعلان عن عقدهم له، حتى قبل أن تحفظ الكويت ماء وجههم بطلب تمديد المهلة، والذي جاء كما بدا لنا بناء على عدم جاهزية هذه الدول، لأنها خالية الوفاض في إفلاس دبلوماسي وسياسي، خصوصا وأن وزير خارجية قطر، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، كان قد أعلن سلفا، قبل إعلانهم عن اجتماع القاهرة، جاهزية رد بلاده، وعن سفره لتسليمه لأمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد حفظه الله، في وقته، من دون أن تحتاج قطر أي مهلة إضافية.

ماذا تمخض عن الجبل؟ لن أفتي ومالك (الإعلام) في المدينة عن غياب “منطوق” وزراء خارجية دول الحصار في “اجتماع الدول الأربع الداعمة للإرهاب”، كما أسمته مذيعة قناة “أون تي في” المصرية، هذا إذا كان هناك منطوق كما يقال في اللهجة الخليجية، أو منطق كما في الفصحى، فقطر تُحاصَر بلسان وزير خارجية الإمارات، لأنها لا ترسم البسمة على الوجوه، بل ترسم الحزن في لوحةٍ، لم تتعدّ دبلوماسيتها ثقافة حصّتين في مدرسة ابتدائية: الرسم أو الإنشاء، أو كدبلوماسية تقوم على”رمي حجارةٍ وبيتها من زجاج”، كما وزير خارجية البحرين، عندما شحذه منبر مصر عبد الفتاح السيسي على استعداء قوم في دولته الصغيرة غير المتجانسة، باعتبار “الإخوان المسلمين” جماعة إرهابية، متوعدا قطر التي ليس فيها من نسيجها حزب إسلام سياسي، هذا من دون أن يعلم أنه يلوح لتجريم قومٍ من بني دولته، من دون أن يجرؤ على تطبيق الجرم في بلاده، لأنهم جزء من الحكومة، بل إنهم من تُستغل شرعية وجودهم، لتحقيق التكافؤ والنسبة والتناسب في النسيج البحريني لمواجهة الطائفية، وإلا لكان نصيبهم غياهب السجون.

أما من كان يعوّل على فصاحته سلفا قبل الأزمة، والذي كان متقلدا وظيفة المتحدّث الرسمي للسفارة السعودية في واشنطن، قبل أن يعيّن فيها سفيرا، ومن ثمّ وزيرا للخارجية، نجد أن منطقَه في أزمة الخليج وحصار قطر قد انحسرعلى قاعدة نفسية معروفة، يتراجع فيها المنطق مع غياب القناعات الداخلية أو ضعفها، لأنها المحفز الرئيسي للحجة والمقارعة، جاء في تمثيلها قوله تعالى “فيضيق صدري ولا ينطلق لساني”، فاخترع مصطلحا شهيرا، بعد التردّد والبهوت الواضح عليه، بـ “طفح الكيل” الذي نما إلى قاموس “التفحيط السياسي”، فاستخدمته الخارجية السعودية في بياناتها الرسمية، في مفارقة دبلوماسية مضحكة لم تسبق، حتى فجّر في الاجتماع قنبلة إعلامية مفادها: “هناك دعم للإرهاب تحت غطاء حرية التعبير”.

“كأن قطر تؤكد أن الحصار الذي فرّطت فيه دولة بجزيرتين، وأخرى بثلاث، جعلها تزداد اعتدادا بجزيرة الرأي والرأي الآخر”

ولأن الشيء بالشيء يذكر، أعود هنا إلى ما ذكرته رايدلي في مقالها: “لمن هم مثلنا الذين يحملون ذاكرة جيدة عن المنطقة، لم تكن المقاطعة التي شنتها السعودية وحلفاؤها مستغربة علينا، والسبب ببساطة أن السعودية لا تتسامح أبدا مع أي نقد، خصوصا وأن لها سجلا تاريخيا متتابعا في مهاجمة الإعلام غير المرغوب فيه ومحاربته”

حدث هذا كله في سابقة مراهقةٍ سياسيةٍ نادرةٍ تواجه القاموس الدبلوماسي، وسابقة لم يشهدها الخليج إلا بعد جريمة التهكير وتوابعها من قطع العلاقات والحصار والادّعاءات الـ 13 واستمرار الكذب والتلفيق، رهبة من أمر ما.

حدث هذا المخاض الجماعي كله في مصرفولد فأرا. وقد كان وزير الخارجية القطري حينها يحاضر في أعلى المعاهد للشؤون الدولية “شاتام هاوس” في لندن، في اليوم نفسه، بل في السويعات نفسها المقرّرة لانتهاء المهلة، متفرّدا وحده بدبلوماسية استباقية ارتجالية محترفة، أحرى فيها للعالم كله وبمفرده ما لا يُنتظر بعده ردّ:

“نحن في قطر دائما منفتحون مع العقلانية والحوار، فقطر تؤمن بحريّة الرأي والتعبير، ولم تذعر بسبب الربيع العربي، ولم تشعر أبدا بالتهديد، كما شعر به جيرانها”. باختصار: “جذور الأزمة الحالية غير مرتبطة بالارهاب، بل بمحاولة تكميم أفواه الصوت الآخر، إنه الإرهاب الفكري”.

 

 

 

 

أضف تعليقك