لأنه ليس "أبيض البشرة، أصفر الشعر، أخضر العينين"، فإنه يجوز للنظام المصري، أن يستبيحه بالشكل الذي شاهده العالم، فلا تحرك المنظمات الغربية المعنية بحرية الصحافة، ساكنا.
ولأنه لا يحمل "جواز سفر"، أمريكي، أو أوربي، أو حتى استرالي، أو كندي، فإن صمت هذه المنظمات على ما يجري له من تنكيل يصبح هو الطبيعي، وفق القاعدة القديمة للخبر، فالخبر في أن يعض إنسان كلباً، وليس في أن يعض كلب إنسانا!
ولأنه صحفي "كما ورد في الكتاب"، ولا يعمل لحساب جهات أجنبية، أو من المتمولين من الجهات المانحة للدعم، التي تجتبي العملاء ومن في حكمهم، فقد أصبح محمود حسين مقتولا بلا دية!
لقد ظهر الزميل "محمود" الصحفي بقناة "الجزيرة"، في الأسبوع الماضي، في صورة يرثى لها، فلم تكتف عصابة الإجرام التي تحكم مصر، بسجنه بدون وجه حق، ولكن منعت نقله للمستشفى لتلقي العلاج، ونسب الأمر لإدارة سجن طره، مع أنها لا تملك من أمر نفسها شيئاً، فقرار كهذا هو بيد السيسي وحده، وهو من يطربه أن يرى ضحاياه في أوضاع مأساوية، فلم يرحم كهولاً، لا يقوون على السير، مثل المستشار محمود الخضيري، ومرشد الإخوان السابق مهدي عاكف، فاستمر في سجنهم، بدون أن يجرؤ على أن يقدمهم لمحاكمة عادلة!
كان "محمود حسين" قد تعرض لكسر مضاعف في يديه، نتيجة سجنه في مقبرة، وقد التقطت له صورة وهو في سيارة الترحيلات، غطت بشاعتها، على اهتمامنا بخبر التجديد له، والذي تحول إلى عمل روتيني، يقوم به قاضي التحقيق، دون إحالته للمحكمة، أو الإعلان بشكل رسمي عن الاتهامات الموجهة إليه، فقد استنفذت وزارة الداخلية حصتها من حبسه، ثم أحالته للنيابة، التي استنفذت حصتها أيضاً، فكان عرضه على قاضي التحقيق، فيأخذ بدوره حصته في عدد أيام الحبس، قبل أن يحال إلى محاكمة ليس مؤكداً أنها ستكون عادلة، في وقت يتدخل فيه النظام الانقلابي في أمر القضاء، وقد شاهدنا هذا مؤخراً، من خلال حكم البراءة التي حصلت عليه "آية حجازي" من القضاء المصري، وقد تبين أن أمراً أمريكياً صدر من السيسي بالإفراج عنها، فكان قرار الإفراج من أول جلسة انعقدت بعد صدور هذا الأمر.. لا تنسى أن "حجازي" تحمل الجنسية الأمريكية!
كما استمعنا إلى "مندوب" السيسي المكلف بالتفاوض مع أهالي جزيرة الوراق، اللواء "كامل الوزيري"، وهو يعد بالإفراج عن أهالي الجزيرة المعتقلين فورا، وعند أول جلسة تحقيق، تم الإفراج عنهم بالفعل!
لقد غطت الصورة، على اهتمامنا بخبر التجديد، الذي هو خمسة وأربعون يوما في كل مرة، وهو الحد الأقصى للتجديد في المرة الواحدة، ويتكرر منذ القبض على زميلنا "محمود حسين" في ديسمبر من العام الماضي!
وهذا الوضع المُزري الذي ظهر عليه "حسين"، لم يدفع المنظمات الدولية، لتطلب من السلطة في مصر أن تسمح له بتلقي العلاج، لأن انتظار هذه المنظمات أن تضغط من أجل الإفراج عنه - وهو لم يواجه باتهام حقيقي وجاد – هو أمر من الأحلام، مع أنها فعلت من قبل، واستشعر "بان كي مون"، القلق في وقائع سابقة، وتم منح المعنيون صفة "الصحفي"، مع افتقادهم للصفة، وفق التعريفات الدولية والأوربية على حد سواء، غاية ما في الأمر، أن هؤلاء الأفراد الذين تنفر من أجلهم المنظمات الدولية والحقوقية خفافا وثقالا، تربطهم علاقات بالدوائر الغربية، تستدعي التدخل دفاعاً عنهم، أما "محمود حسين" فلا بواكي له!
صاحبنا هو صحفي مهني، وفق المعايير المعتمدة دولياً، وقد بدأ حياته المهنية في التلفزيون المصري، وعمل مراسلاً لأكثر من فضائية، قبل أن يستقر به المطاف في مكتب قناة "الجزيرة" بالقاهرة، وعندما تم إغلاق المكتب، بقرار من الانقلاب العسكري، جاء إلى المقر الرئيس للقناة بالدوحة، وطوال مسيرته المهنية، لم يضبط متلبساً بالانضمام لحزب، أو جماعة، ولم يعرف عنه أنه خلط بين التوجه السياسي، والعمل المهني!
وقد جاء إلى الدوحة، عبر مطار القاهرة، فلم يكن مطلوباً على ذمة أي قضية، وعاد إلى مصر لزيارة عائلته لأكثر من مرة، بدون أن يتم إيقافه، فعمله في "الجزيرة" كان بشكل قانوني، وكان يحمل موافقة جهة عمله على الإجازة، التي تجدد في كل عام، كما يحمل الترخيص الذي تصدره إحدى الجهات الحكومية للعاملين في "الإعلام الخارجي"، وقد توقف عن العمل من القاهرة بمجرد أن أغلق المكتب، وفي المقر الرئيسي كان بعيداً عن كل عمل له صلة بمصر وشؤونها، وقد سافر إلى تركيا لتغطية الانقلاب العسكري هناك، كما سافر في مهمات صحفية خارجية، مراسلاً من موقع الحدث، وهو المجال الذي أبدع فيه.
في عودته للقاهرة في المرة الأخيرة، تم استيقافه لساعات في مكتب الأمن بمطار القاهرة، لكنه في النهاية خرج من المطار، بما يؤكد أنه ليس مطلوباً على ذمة أي قضية، ولم يكن يعلم أن القوم يجهزون له قضية، أضحكت - لغرابة الاتهامات المنسوبة اليه - الثكالى، ومنها أنه عضو في جماعة الإخوان، وأنه شارك في فيلم "العساكر" الذي أنتجته "الجزيرة" ويتحدث عن أوضاع المجندين في الجيش المصري!
لقد ضحك الثكالى، لأن من شاركوا في هذا الفيلم نشرت أسماءهم، وكان معلوما لكل من يعمل في "الجزيرة" أن "محمود" كان غاضباً من فكرة هذا العمل الوثائقي عند الإعلان عنه، ولو كانت له أدنى صلة بالفيلم، لما سافر بعد عرضه بعدة أيام رغم إعلان الحرب في الإعلام المصري ضد الجزيرة.
وكان الاتهام بأنه عضو في جماعة الإخوان، أكثر مسخرة، فبقيام الثورة، فإن اللعب صار على المكشوف، وكل الانتماءات صارت واضحة، ومحمود دخل مبنى التلفزيون في فترة لم يكن يسمح لأصحاب الانتماءات هذه بدخوله، فالتعيين يتم بعد موافقة أكثر من جهة أمنية.
ولم يكن غريبا، ما أعلنه وزير الإعلام الإخواني، أنه عندما دخل مبنى ماسبيرو، لم يجد من بين العاملين فيها وهم قرابة (40) ألف عامل، سوى ثلاثة من الإخوان. يبدو أنهم دخلوا في وقت تراخي قبضة الأمن، أو بسبب حسابات خاصة للأجهزة، وأحدهم معروف أنه دخل المبنى في صفقة أمنية، ثمنا لتسريبه تقرير مهم من مكتب المرشد العام، وقد استقال من الجماعة بعد انكشاف أمره، وأصبح من فئة "الإكس إخوان".
وعندما كان التفكير في تعيين رئيس جديد لقناة النيل الإخبارية، طرح زميل لمحمود، على وزير الإعلام صلاح عبد المقصود، اسم "محمود حسين"، لكن شروطه لم تقبل، ومنها ألا يتدخل أحد في عمله نهائياً، مع توفير ميزانية مرتفعة، ليمكنه أن ينافس كبريات المحطات التلفزيونية الخارجية.
فلما رفضت هذه الشروط، استمر في عمله في مكتب قناة "الجزيرة"، وفي الحصول على إجازة سنوية من عمله الأصلي، فلم يكن ولو جزءاً من أداء الإخوان!
لقد تم تعديل قائمة الاتهامات، لتصبح عائمة، مع رفع الاتهام بالأخونة، والمشاركة في الفيلم الوثائقي "العساكر"!
ورغم أن انتماء "محمود حسين" لمهنة الصحافة حقيقي، ورغم الصورة المزرية التي ظهر عليها، ورغم أن الاتهامات الموجهة إليه أقرب إلى الخزعبلات، فإن هذه المنظمات الدولية، والحقوقية، والصحفية، لم تتحرك لتدين هذا الإجرام وتستنكره، وهذا يقودنا إلى الوقوف على حقيقة هذه المنظمات، التي هى جزء من المشروع الغربي وحساباته!
قبل الثورة، منحت جوائز الحريات الصحفية، لإبراهيم عيسى مثلاً، ولم تكن قاصرة على المنظمات الغربية فهناك جوائز منحتها له منظمات عربية تتعامل وفق أجندة غربية، ولم يكن المذكور له نضال يذكر في ساحة الدفاع عن حرية الصحافة، والحكم الوحيد الذي صدر ضده بحسبه عامين، لم ينفذ، وصد عفو رئاسي عنه، وقامت الدنيا ولم تقعد لمجرد إحالته للتحقيق أمام النيابة، وذات مرة كان هناك أربعة من الصحفيين أحيلوا للنيابة من بينهم عيسى و"وائل الإبراشي"، فصاروا في الإعلام الغربي عنواناً لحرية الصحافة في مصر!
في حين أن صحفا كانت تغلق، وصحفيين دخلوا السجن بالفعل، ولأكثر من مرة، ولم تجد هذه المنظمات في هذا قمعا للصحافة، لأن هذه الصحف والعاملين فيها ليسوا جزءا من المشروع الغربي، ولا يصلح الصحفيون فيها لأن يكونوا من النخبة التي تصنعها أمريكا ويشترط فيها أن تكون فارغة من أي مضمون، ولا تنحاز لقضايا الأمة، وفي القلب منها القضية الفلسطينية!
لقد سجن مجدي أحمد حسين، وصلاح بديوي، ومجموعة من الزملاء في قضية المبيدات المسرطنة، واتهامهم لوزير الزراعة بأن يستورد مبيدات غير مطابقة للمواصفات ضمن مشروعه الصهيوني كرجل التطبيع في مصر، فيصبح من الطبيعي أن تتجاهل هذه المنظمات هؤلاء ولا تعبأ بإغلاق جريدة "الشعب" ومصادرتها، وتمنح النجومية لمن لم يكتبوا حرفاً ضد اسرائيل، ولم يكونوا جزءاً من قضية الحرية في مصر!
لقد شاهدت جانبا بعد الانقلاب من حوار حول من هو الصحفي مع منظمة حقوقية أمريكية، فهى لا تمنح الصحفيين المعتقلين بعد الانقلاب الصفة، لتدافع عنهم، باعتبارهم حزبيين، ودهشت أيضاً لحجبهم الصفة عن زميلنا إبراهيم الدراوي، رغم أن أرشيفه الصحفي هو دليل الإدانة، واعتبرت الحوار هو نوع من الجدل العقيم، فكيف يطلب من منظمة أمريكية أن تعترف بصحفي يحاكم بتهمة العمالة لحماس، وإن كان عضواً في نقابة الصحفيين، ويعمل صحفيا وفق الشروط والمعايير الدولية؟
لكن في المقابل، فهذه المنظمات تناضل من أجل تمييع الحدود، لتتمكن في هذه السيولة من منح المتمولين غربياً، وكتبة التقارير للجهات الأجنبية صفة الصحفي، لتبرر عملية الدفاع عنهم، وتبرير حصولهم على المعلومات، مع أن الصحافة تثبت بالممارسة، وفي أحد تعريفات الصحفي أن تكون الصحافة هى مصدر دخله الرئيسي، وبتفسيرات مختلفة لهذا المعني في كل قوانين الدول الغربية، لكن الملاحظ هنا أن هذه المنظمات لا تمانع في منح الجواسيس الصفة الصحفية وتسحبها عن الصحفيين المحترفين، لأنهم ليسوا عملاء أو متمولين، ولا يصلحون لأن يكونوا من النخبة التي يصنعها الغرب في بلادنا، كما أنهم لا يتبنوا الأجندة الغربية، فيدافعوا عن حقوق الشواذ!
وعندما تجد هذه المنظمات نفسها، أمام "محمود حسين" والصفة الصحفية متحققة فيه، تعرض بجانبها، ولا تكترث بعملية التنكيل به، وكأنه ليس صحفياً يستحق أن يستشعر الأمين العام للأمم المتحدة "القلق" من جراء ما يحدث معه على عظمته، على نحو ينسف فكرة حقوق الإنسان من الأساس!
فواشنطن "الراعي الرسمي" للاستبداد التي صمتت على المجازر التي ارتكبها عبد الفتاح السيسي، وأيدت الانقلاب على إرادة الشعب المصري، وسجن الصحفيين والتنكيل بهم، وإغلاق الصحف، وتأميم المجال العام، تتحرك الآن فتوقف بعض المساعدات التي تقدمها لمصر، لسبب بسيط وهو أن قانون الجمعيات الذي أقره السيسي يحول دون تقديمها للدعم لعملائها في القاهرة!
ومن الطبيعي – والحال كذلك – أن يتم التنكيل بمحمود حسين، فلا تتداعى هذه المنظمات ولو لكي تقول: أف!
أضف تعليقك