• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانيتين

لا يُمكن فهم تسارع إصدار أحكام قضائية ظاهرة العوار – بل ومتناقضة مع أبسط قواعد العدالة - بحق متهمين هم أنفسهم ضحايا للقمع، إلا في إطار السعي الحثيث لهدم المؤسسة نهائيا، ونقلها من خانة مؤسسات الشعب إلى أرفف أدوات القمع. 
ولا يخفى أن أي سلطة قمعية تسعى إلى احتواء القضاء، غير إن الجديد أن هذه السلطة تعمل على إلغائه، وتحويله لمجالس تأديبية تعمل بالأوامر دون مراعاة أحكام التقاضي أو أصول الإجراءات أو قواعد القانون أو مفهوم العدالة.

فما يحدث في مصر منذ أربعة أعوام لا يُمكن توصيفه إلا أنه عملية تطهير فكري واسعة ضد فئة من الشعب، وهو ما دفع منظمات دولية ذات مصداقية لتوصيف عمليات التعذيب والتصفية خارج القانون باعتبارها "جرائم حرب"..
وربما أختلف مع منظمة هيومان رايتس ووتش في توصيفها لتلك التصرفات باعتبارها "جرائم حرب" لكونها أقرب لتعريف "الجرائم ضد الإنسانية" لكونها لا تأتي في إطار حرب بين أغيار وإنما في إطار "تجفيف قدرة المجتمع على مقاومة الاستبداد"، فيجري اجتثاث مجموعات مجتمعية بأكملها، واتخاذ عمليات "الإبادة المتقطعة" نموذجا لردع المجتمع عن الاستماع لأي رأي معارض للسلطة.
فالمسلم به أننا أمام عملية "تطهير عرقي للمعارضة المصرية" مستندة لثلاث آليات، القتل والإخفاء والتعذيب، ويجري المبادلة بين تلك الآليات وفقا للظروف.
وقد أدى ذلك إلى وضع القضاء في قلب الصراع بين السلطة القمعية والمجتمع الذي يحاول الإفلات من الاستبداد أو على الأقل تخفيف حدة القمع. 
فكثيرون كانوا يأملون أن يجدوا في القضاء ملاذا لهم، بينما السلطة تسعى لتحويل القضاء إلى أداة بيدها كأي أداة قمع أخرى.
لكن قدرة أي سلطة قمعية على الاستيلاء على مؤسسات الدولة ليست بنفس الدرجة، فإذا كان الإعلامي الحكومي العريق يسهل توجيهه وإقصاء الإعلاميين الشرفاء منهم أو تهديدهم. كما إن السلطة التشريعية يكفي تشكيلها بانتخابات مزورة ليحصل المستبد على أداة تشريعية طيعة، فإن احتواء القضاء ليس أمرا هينا، خصوصا إذا كان للقضاء تاريخ نضالي وتسرب شرفاء إلى مكوناته.
فنظرا لتركيبته ووظيفته يمتلك القضاء قدرة واسعة على المناورة بحيث لا يقع تماما في قبضة السلطة وإن عجز أن يكون في صف الشعب. كان يُمكنه مثلا رفض الدعاوى الملوثة الحكم ببراءة المتهمين وإثبات انتزاع الاعترافات بالتعذيب أو حتى التنحي عن نظرها أو إلغاء الأحكام الجائرة أمام محكمة النقض، كما حاولت النقض أن تفعل في البداية.

غير إن الفساد المتراكم في المؤسسة بسبب التوريث وإدخال خريجي كلية الشرطة إليه أدت إلى إضعاف قدرته على المقاومة، فاستسلم سريعا بعد عدة أشهر من الانقلاب، ليقوم بما يُسند إليه دون محاولة حماية المؤسسة وأفرادها مما لن يمحوه زمن أو يسقطه تقادم.

ربما البعض يُجادل بأن القضاء منذ البداية كان مستسلما للثورة المضادة، وهو ما يخالف الحقيقة، فما قامت به المحكمة الدستورية من التنسيق مع قوى الثورة المضادة مبكرا لم يُعبر عن جسد القضاء، خصوصا أن تلك المحكمة ليست من الجسد القضائي الصافي، بل هي مؤسسة سياسية أكثر منها قضائية؛ وهو ما وضح في استخدام فتوى رئيسها لتمرير اتفاقية التنازل عن تيران وصنافير، بالإضافة إلى دورها الجوهري في الانقلاب على ثورة يناير.
كان القضاء قابلا للالتحاق بالثورة في فترة مميزة من عمرها، غير إنه لم يلحق بها في النهاية.
حساسية مشاركة القضاء في عمليات القمع – خصوصا عندما تصل لهذه الدرجة– ترجع لكونه مؤسسة قانون المفترض أن رجالها يُدركون نتائج الأفعال، وأن التغطية على القمع بأحكام قضائية ليس إلا طريقة للمشاركة في القمع. فإذا بلغ القمع درجة "جرائم حرب" أو جرائم ضد الإنسانية، فإن القضاء كمؤسسة وأفراده كقضاة أو مدعيين عموميين يُصبحون جزءا من منظومة القمع ويسري عليهم ما قد يلحق بها.

فإذا كانت منظومة القمع لا تمتلك بديلا – حتى تستمر – سوى أن تُزيد معدلات قمعها مهما بلغت كلفته، فإن المؤسسات الملتحقة به تُصبح في ذات الحال، إذ لا يجد القاضي طريقة لتغطية مشاركته في القمع سوى تأكيد دوره القمعي بأحكام جديدة مبتغيا منها أن تمنع سقوط النظام أو فتح الأفق السياسي بما يفتح الطريق للتغير.
فالتغيير يُصبح خصما لشركاء القمع، لأنه ينطوي على سناريوهات مخيفة لهم وهي محاكمتهم بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
ومع ذلك، فإن ثمة نافذة ضيقة متبقة لمؤسسة القضاء للإفلات من هذا المصير المُعتم. 
كان حكم مجلس الدولة بشأن سيادة مصر على تيران وصنافير قفزة جريئة لإعادة موضعة القضاء كمؤسسة للمجتمع لا أداة للسلطة تستخدمها في وجه المجتمع.

غير إن رد السلطة جاء قاسيا بتعديل كل تشريعات الهيئات القضائية بما يُشبه عملية التأميم والتأديب، وهو ما واجهته مقاومة ضعيفة من كبار القضاة الذين فضلوا الموائمة مع السلطة لضمان ترقياتهم لمناصب قيادية على المواجهة للدفاع عن استقلا القضاء.

ومع ذلك، فإن بنية القضاء تسمح باستعادة روح المبادرة والابتعاد بخطوة على الأقل عن مؤسسة القمع، وهو ما يستتبع تفعيل نوادي القضاة والجمعيات العمومية للمحاكم والتي تفلت بطبيعتها من الإطار التشريعي الضيق الذي صنعته السلطة لمؤسسة القضاء. 

كما إن دوائر محكمة النقض لديها حرية حركة واسعة تمنحها الفرصة لتصحيح الأحكام المختلة، خصوصا أحكام الإعدام والمؤبد المستندة في أغلبها لتحريات غير نزيهة أو لاعترافات منتزعة تحت التعذيب. فإلغاء هذه الأحكام الجائرة يمثل رسالة للمجتمع أن دماء الاستقلال لازالت تسري بعروق وشرايين القضاء.

والأهم من كل ذلك هو أن القضاء أصبح في حاجة شديدة لاستعادة بناء تيار الاستقلال الذي يتسامى على التوجهات الأيديولوجية ويتبنى مطلبا واحدة هو "استقلال المؤسسة" والنأي بها – في مرحلة أولى عن مستنقع رذيلة الاستبداد – ثم الانتقال إلى النضال لتحقيق استقلالها الذي بدأ يخفت خفوتا يُخشى أن يأتي من بعده موت القضاء كمنظومة وانتهائه كمؤسسة.

يُدرك المجتمع أن التشكيلات المصطنعة داخل القضاء، سواء الدوائر الخاصة أو المتخصصة كتلك التي اصطنعت للنظر في طعون ما يُسمى بالقوائم الإرهابية تمثل بثورا لا أمل في إصلاحها، فهي فقدت المشاعر القضائية بالكامل وأمست اشبه بمجالس التأديب العسكرية. غير إن الدوائر العادية التي لم يجر التداخل في تشكيلها لأنها تكونت عن طريق الجمعيات العامة للمحاكم ذاتها فإنها مسئولة عن إنقاذ القضاء من المصير الذي تقوده إليه سلطة مختلة ومستخفة بكل القيم.

غير إن الرؤية العامة التي يجب أن تقود أي مسيرة للقضاء لاستعادة استقلاله يجب أن تقبل بإمكانية فقدان ميزات فئوية مقابل استعادة الذات، وإلا فإن أي عملية إصلاح ستكون محكومة بالفشل لأنها ستنتهي بترضية على حساب الاستقلال.

أضف تعليقك