هل كانت محض مصادفة، أن يموت المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين، الأستاذ "مهدي عاكف" في محبسه، في نفس اليوم الذي طالع فيه القراء، مقالاً لأحد عناصر "30 يونيو"، وهو يعترف بالدعم الإسرائيلي لثورتهم، حيث "مارست الوفود التي أرسلها بنيامين نتنياهو ضغوطاً كبيرة على أعضاء الكونجرس من أجل تبني رؤية موضوعية تجاه الأحداث في مصر"!
والحال كذلك، فإنه من الطبيعي أن يموت في سجون هذا الانقلاب، رجل ذهب ليحارب العدو الصهيوني في فلسطين، شاباً، وقد ثبت التبني الإسرائيلي لهذا الانقلاب، حد إرسال الوفود لتمارس ضغوطها على أعضاء الكونجرس، حتى يعترفوا بشرعية انقلاب على إرادة الشعب المصري، فكان لابد أن يتجاوز القوم في واشنطن ومن حولها، المبادئ الأمريكية عن الديمقراطية، وحق الشعوب في تقرير المصير، فهذه المبادئ هي فقط للاستهلاك المحلي.
"مهدي عاكف"، من الجيل الذي مثلت له قضية فلسطين، عقيدة ومبدأ، فقد مارس الجهاد لتحريرها بالفعل وليس بمجرد الكلام، وعندما يقع انقلاب صهيوني في مصر، فمن غير الطبيعي، ألا ينكل به، وألا يمثل كبر سنه حائلا دون الإفراط في استباحته، فلم يعامله قائد الانقلاب معاملة تجار المخدرات، والجواسيس، بالإفراج الصحي عنهم.
لقد انتظر "عبد الفتاح السيسي"، أن يغري المرشد العام السابق غروره، وأن يعترف بشرعيته، بمجرد كتاب استرحام، يطلب فيه منه العفو، لكن الرجل رفض، كما رفض هذا في شبابه، عندما طلبوا منه الكتابة لجمال عبد الناصر ليعفو عنه، بعد حكم للإعدام صدر ضده، وما كان له أن يطلب استرحاماً الآن من عسكري، تبنى العدو التاريخي للأمة انقلابه، وذهبت وفوده لتمارس ضغوطاً على أعضاء الكونجرس، باعتراف أحدهم، والاعتراف سيد الأدلة!
إن "عسكريّا" لم يخض حرباً في حياته، لا يعرف قيمة مجاهد واجه أعداء هذه الأمة، وإن كائناً يرى أن وظيفته هي تحقيق الأمان للإسرائيليين، لا يمكن إلا أن ينكل بواحد حارب الإسرائيليين، وكان من الرعيل الأول الذي كتب بالدماء سطوراً مجيدة في تاريخ الأمة.
لقد أثبتت التقارير الطبية، أن الأستاذ "مهدي عاكف" مريض بسرطان البنكرياس، وارتفاع نسبة الصفراء، ولم تشفع حالته الصحية المتدهورة ليفرج عنه قائد الانقلاب العسكري، بإعفاء صحي، ومارس التنكيل به، ومنع عنه العلاج لفترة طويلة حتى تردت حالته الصحية، ضاعف من ذلك، كبر سنه، ورفض عبد الفتاح السيسي الإفراج عنه، وانتظر أن يتقدم له بطلب استرحام، فربما لا يتخذ فيه قرارا وإنما يرفعه إلى كفيله العام "بنيامين نتنياهو"، لينظر في أمره!
لم يرد الله سبحانه وتعالى، لعبد الفتاح السيسي، أن يتصرف بما يعطي إشارة بأنه إنسان، فماذا لو لم يتعسف رئيس المحكمة، وأخذ بطلب هيئة الدفاع عن "عاكف" قبل ثلاثة أيام وأفرج عنه؟.. كنا اليوم قد نجد من يتحدث عن عدالة القضاء المصري، وعن "إنسانية الرئيس الإنسان"!
لقد وضع القاضي شرطاً لم يرد في القانون، لنظر طلب الإفراج عن "مهدي عاكف"، هو أن يحضر بنفسه، ولم يستمع لمحاميه وهو يقول إن حالته الصحية متدهورة ولا يمكنه الحضور، وقطعاً فإن القاضي يعلم ذلك جيداً، لذا فقد وضع هذا الشرط، لأنه يعلم أنه الشرط المستحيل!
إن "أبا جهل"، وهو من مات على كفره، وحارب الرسول وأصحابه، كان في سيرته ما يذكر فيشاد به، من رفضه أن يفزع بنات محمد، لكن عبد الفتاح السيسي، سيموت دون أن توجد في صحيفته من "المكارم" ما يستحق الذكر، وهو ينكل بشيخ كبير، ويصل به الحال إلى حد منع الصلاة عليه، وأن يشيع جثمانه في جنازة، فكان القرار الأمني بالدفن ليلا، على نحو يمثل اللدد في الخصومة، والفجور في التنكيل، فظن أنه بذلك يحط من قدر الرجل، ولم يعلم أنه يكرمه ويرفع من قدره، كما كرم الملك إمامه حسن البنا، الذي قتل، وبعد مقتله، لم يسمح إلا بنساء العائلة بتشييع جنازته، لكن الرجل الذي بدا أنه مات فطيساً، لم تكد تمر سوى سنوات قليلة، حتى انتقل من مرشد لتنظيم محلي حين وفاته، إلى مؤسس لتنظيم دولي ويذكر اسمه في كل الأصقاع.
وكانت نهاية "مهدي عاكف" تليق بصاحبها بامتياز، فمن دخل السجن لأنه رجل، يستمر في رجولته للنهاية، والرجل الذي حارب الصهاينة على أرض فلسطين، لم يطلب عفواً أو صفحاً من "وكيل أعمالهم" في القاهرة، وكما كان في شيخوخته يخيف قائد الانقلاب ومن يمثلهم، فقد صار ميتاً أكثر خطراً على استقرار حكمهم.
فمن الدوافع وراء رفض أن يشيع في جنازة هو الخوف من أن تكون هذه الجنازة، بالحشود التي تشارك فيها، كاشفة عن شعبية الرجل، وعن حضوره في قلوب مريديه برغم الانقلاب والآلة العسكرية التي استخدمها السيسي ضدهم بدون سقف، فها هم العسكر يخافون من شعبية خصومهم حتى وهم موتى!
إن عبد الناصر فوجئ بالحشود التي شاركت في جنازة الزعيم الوطني "مصطفي النحاس" بعد أن غيبه لتسع سنوات، وحكم عليه بالموت بالحياة، وشوه سمعته في الكتب ووسائل الإعلام، وقال بعد أن رأى الآلاف تشيع جثمانه إلى مثواه الأخير: بعد كل ما فعلناه والناس لا تزال تذكر النحاس!
وقد أخذ عبد الفتاح السيسي بالأحوط، فكان القرار بالدفن ليلا بدون صلاة، أو جنازة، ولا يعرف أنه بذلك، إنما أكد على شعبية الرجل، وعلى تقدير المصريين له، حد الخوف من أن تكون له جنازة معلومة!
لقد عاش مهدي عاكف رجلاً ومات قدوة وبطلا، وكما كان في شبابه مثلاً فقد ارتقى في شيخوخته إماماً ورمزا.
أضف تعليقك