• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

في هذا الصباح الراقي الرائق، استيقظ مبكرًا علي غير عادته إن كان قد نام أصلًا ، فقد صلي الفجر ثم عاود النوم في نمرته ، ولا يكاد يشعر إن كان لا زال مستيقظًا أو أخذته سنة من النوم فاستيقظ بعدها ، ثم جلس في نمرته ولم يكن أحد مستيقظًا غيره ، وأخذ ينظر حوله ، في هذه الزنزانة الضيقة ، علي تلكم الأجساد المتلاصقة بشكل هندسي عجيب وكأنك تنظر إلي مدينة صغيرة من الطائرة ، فكل جسد مسجي بهدوء في نمرته ، التي يبلغ عرضها خمسة وثلاثون سنتيمتر ، وفوقها حبل متدلي ومربوط في آخره بالعرض قلم قد استنزف حبره علي أوراق خرجت من المعتقل محملة بمشاعره وهمومه وآلامه بثها لأحبابه في خطاباته إليهم وكان مدادها ذلك الحبر الذي استمر نزفه علي الأوراق ، حتى نفذ فانتحر القلم مشنوقًا في هذا الحبل ، مُعلق فيه مجموعة كبيرة من الأكياس المملوءة بأغراضه وبما يحتاج إليه من متاع الحياة الدنيا ، فدنياه مثل دنيا كل من معه مجموعة في كيس كبير وأكياس صغيرة تتدلي فوق رأسه وهو نائم فوق بطانية ميري سوداء قد لفها بملاية وجعل منها متكأه الذي يلازمه طالما ظل باب الزنزانة مغلقًا.

 

طاف بنظره بين هذه الأجساد ، ثم طافت عينه جميع جوانب الزنزانة فالمشهد واحد ومستنسخ بشكل لا مثيل له..

 

ثم تركزت عيونه علي ذلك الشيخ ذي الوجه الصافي المضيء الوضاء ، ذي الخمسين عامًا والذي بدا له وجهه وهو مستغرق في النوم كأنه طفل من الولدان المخلدين ، يا الله أهذا هو الشيخ الحافظ لكتاب الله ويتلوه علينا بكرة وأصيلا وفي صلاتنا تزرف عيوننا الدمع هتانًا من أثر صوته الرخيم إذا صلى بنا الفجر ، ومن أثر انسياب آيات القرآن من بين ثناياه عذبة رقراقة .

 

كلما سمعناه غبطنا أنفسنا علي فضل الله علينا أن جعل هذا الشيخ معتقلا معنا ، فما أروع فقهه وأندي شرحه للتفسير ، وابتسامته الحانية تذيب أثر الأسر وقسوة الظالمين ، والحديث معه درب من دروب المتعة لا تمل من أن تظل أحد سالكيه ، فيتحدث إليك بكل فنون العلم والأدب ، يُغرقك معه في عالمه الرباني ، تري وجهه وهو يبتسم يشع منه ضوء كضوء القمر إذا انتصف به الشهر لا تمله ، ويكون في أسعد حالاته وأبهاها قبل يوم الزيارة وعشيتها ويومها ، وأنت تستمتع معه بالحديث وهو في كل حالاته فهو لا يقول إلا ما يثري معرفتك.

 

ثم انتقل ببصرة فجأة بعد سماع غطيط أحدهم وهمهمته وكأنه يُحدث ولده ، فوجده ذلك الطبيب العالم الذي كان يشغل منصبًا كبيرًا في وزارة الصحة ، والذي يتحفنا بأحاديثه الرائعة ونوادره مع المرضي ، حتى نستلقي علي ظهورنا من الضحك... والذي تم تغريبه في أول اقتحام من المجرمين لزنزانتنا..

 

واشتهي كوبًا من الشاي ، فأخذ كوبه ووضع فيه ملعقتين من السكر وفتلة شاي ، ثم وقف وسار نحو السخان يتحسس خطواته ، ويستعرض مهارته في السير بين هذه الأجساد المتلاصقة دونما إزعاج لأحدهم ، ولكنه تعثر في قدم هذا الشاب الذي اعتقلوه من أمام كلية الهندسة ، وحرموه من الدراسة وقتلوا وصادروا فرحة أبويه به ، ذلكم الشاب العبقري الذي حفظ القرآن الكريم في شهرين ، وكان يتحفنا بما يحفظه من قصائد في كل أبواب وفنون الشعر ،فاستيقظ علي أثر دهس قدمه وهو يعلم ما أيقظه فقد اعتاد علي ألا يستيقظ إلا إذا دُهست قدمه، فتبادلا الابتسامات والاعتذار ، فأشار إليه إشارات لطيفة بيده وكأنه يقول له وهو يبتسم ولا يهمك ولا يهمك هو ده الطبيعي..

 

وهو يغلي الماء سمع نداء أحدهم عليه من تحت الغطاء هي أسماء الزيارات جت... فيبتسم له ويسأله هل لك زيارة اليوم فيجيبه بعينيه المبتسمة ووجهه الذي اشتعل نورًا نعم.. فيقول له لسه بدري كمل نوم وأنا هاصحيك لما الأسماء تتعلق...

 

ولكن كيف ينام وهو يستعد لزيارة أحبابه ، قام من نومه وجلس هنيهة ثم انتفض أخرج ملابس الزيارة البيضاء ناصعة البياض التي قام بتطبيقها علي وضع المكواة حتي تبدو أنيقة ، ثم استخرج أدوات حلاقته ، وأدوات استحمامه ثم ذهب متسحبًا إلي الحمام ليستعد وينعم بوقت طويل وينفرد بالحمام قبل أن يستيقظ الجميع فيكون نصيبه دقيقتين وبعدها يتم اقتحام الحمام بقرار من النيابة العامة...

 

وهو يحلق ذقنه دار بينهما هذا الحديث فالسخان أمام باب الحمام مباشرة...

أيوه يا سيدي هتشوف حبايبك .

 

اه والله الحمد لله عارف.. لولا الزيارة دي الواحد كان مات ومتحملش السجن .

 

اه طبعًا الواحد بيفضل ينتظر الزيارة من بعد ما تنتهي والأولاد والزوجة لسه خارجين.

 

سبحان الله الواحد بيرجع بعدها وكأنه لم يعتقل.

 

الحمد لله رب العالمين ، لكن أولاد الكلب بيقصروا وقت الزيارة جدا.

 

يا راجل قول الحمد لله إننا بنزور أصلا.. أنا سمعت إن فيه سجون مفيهاش زيارات أصلا وكل المعتقلين فيها محبوسين انفرادي.

 

يا الله الحمد لله فعلا وربنا يفكها علي إخوانا اللي في العقرب.

 

أعمل لك شاي معايا..

 

ماشي اعمل وخلي بالك من النضارة عشان لو محسن عدي تخليه يخليني في أول زيارة عشان العيال وأمهم ما يتأخروش لأنهم خارجين من البيت قبل الفجر .

 

حاضر هاقوله.. وهاعمل لك ساندوتش تأكله مع الشاي..

 

اقتربت الساعة من السابعة وبدأت النفوس الزكية تستيقظ ليستعد من له زيارة. ..

 

وتتردد في جنبات الزنزانة أسئلة كل من يستيقظ فقبل أي شيء يسأل هي الأسامي جت... اسمي موجود.. الحمد لله

 

هو يعلم أن زيارته اليوم وأن اسمه موجود ولكنه يريد أن يستوثق لأنه يعلم أن روحه معلقة بتلك الزيارة فهو يشتاق لرؤية أولاده وزوجته ويشتاق لأن يحتضن ذلك القرد الصغير الذي يتشبث به ويحاول أن يستأثر بالخمس دقائق كلها وهي عمر الزيارة لنفسه..

محسن يا محسن بالله عليك تطلع الكارتة بتاعتي وتخلي اسمي في أول زيارة...

 

تتبع..

 

أضف تعليقك