هي إذن كرة لهب تتدحرج بسرعة، تبدأ بقلق سياسي، تعقبها اعتقالات لعدد من كبار رجال الأعمال ورموز القطاع الخاص بعد اتهامهم بالفساد وغسل الأموال، ثم مصادرة أموال المستثمرين، خاصة المعارضين سياسيا للنظام الحاكم، فهروب استثمارات أجنبية وأموال محلية للخارج مع زيادة حدة التوتر والقلق داخل المجتمع.
ويعقب ذلك بيع الأجانب لاستثماراتهم وأسهمهم في البورصة، وتخلص بنوك الاستثمار والشركات العالمية الكبرى من أدوات الدين التي في حوزتها سواء كانت سندات أو أذون خزانة، والنتيجة حدوث ضغط شديد على سوق الصرف، واستنزاف جزء مهم من احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، وتوجيه الدولة جزءا مهما من الاحتياطي في الدفاع عن العملة المحلية وتلبية احتياجات المستثمرين الهاربين للخارج الذين يحتاجون دولارات مقابل الأصول المحلية التي يتم بيعها.
وقد يعقب هذه الخطوات استنزاف الاحتياطي الأجنبي كاملا، ولجوء الدولة للتوسع في الاقتراض الخارجي، ويصاحب ذلك ارتفاع قياسي لسعر الدولار مقابل العملة المحلية، وفي النهاية لا تجد الحكومة حلا سوى تعويم عملتها الوطنية وتركها تتهاوى أمام العملات الأجنبية بعد أن فشلت في جذب ايرادات كافية من النقد الأجنبي للدفاع عنها وإحباط المضاربات المحمومة عليها.
السيناريو حدث في مصر، ويقترب من التكرار في دول أخرى، على رأسها سورية وليبيا واليمن والسودان وتونس، وقابل للتكرار في دول أخرى، منها السعودية والجزائر والمغرب، لكن بسيناريو مختلف.
حالياً، تشهد الأسواق السعودية حالة قلق شديدة بين مجتمع المال والأعمال، فهناك حالة توتر شديدة، بل ورعب بين المستثمرين، بمن فيهم الأمراء والشخصيات القريبة من السلطة الحاكمة، خاصة مع تسرب أنباء عن توسع السلطات في سياسة الاعتقالات لكبار المستثمرين، وعدم الاكتفاء بالعدد الذي تم اعتقاله مساء يوم السبت، والبالغ 49 شخصا، ما بين 11 أميرا و4 وزراء و34 رجل أعمال، حيث تم بعدها اعتقال ملياردير السفر والسياحة ناصر الطيار، مالك ورئيس مجموعة الطيار للسفر والسياحة، ورجل الأعمال البارز منصور البلوي.
وانتشرت حالة من الرعب الشديد بين كبار رجال الأعمال بالمملكة بسبب ضخامة الحسابات المصرفية التي تم تجميدها في البنوك، اليوم الثلاثاء، حيث تم تجميد 1200 حساب مصرفي، مع التأكيد على أن القائمة في ازدياد، وصاحب ذلك الإعلان رسميا عن مصادرة أموال المعتقلين وإضافتها للخزانة العامة للدولة حتى قبل البدء في التحقيقات، وبعدها تراجعت أسعار الأسهم في البورصة السعودية وهرع المستثمرون نحو التخلص مما في حوزتهم من أسهم، والنتيجة حدوث ضغط شديد على العملة السعودية والسندات.
وتحت ضغط السؤال الملح: "هل نحن في القائمة ومتى سيتم اعتقالنا؟"، راحت مجموعة من رجال الأعمال السعوديين تبحث عن كيفية التخارج من السوق السعودي وتهريب أموالها للخارج قبل تشديد القيود المصرفية على حركة الأموال لخارج البلاد.
وامتد القلق إلى رجل الشراع العادي والوافد الذي راح يسأل: هل ستطولنا أضرار الاعتقال وحالة القلق السائدة، هل سيتم تعويم الريال السعودي على غرار ما حدث في بلدان عربية شهدت حالة قلق سياسي شديد أفضت إلى تعويم عملاتها الوطنية، كما حدث في مصر على سبيل المثال قبل أكثر عام، هل ستقدم السلطات على فك الارتباط التاريخي بين الريال والدولار إذا ما تطورت الأمور للأسوأ، وإذا حدث ذلك، متى موعد التعويم؟
من المبكر جدا طرح السؤال الأخير، فتعويم الريال عملية مستبعدة حاليا ولأسباب كثيرة، منها ما هو سياسي واجتماعي ومنها ما هو اقتصادي بحت، فوفقا للمعايير الاقتصادية، فإن تعويم السعودية لعملتها الوطنية يعد مسألة صعبة جدا في ظل عدة اعتبارات، منها امتلاك المملكة لاحتياطي ضخم من النقد الأجنبي يبلغ 500 مليار دولار تقريبا، وهو احتياطي كاف للدفاع عن الريال لسنوات طويلة، إضافة لأداء دوره التقليدي وهو تمويل فاتورة البلاد من الواردات السلعية، وسداد أقساط الديون المستحقة على البلاد.
وبالمعايير الاقتصادية أيضا، يمكن أن يتبخر هذا الاحتياطي الأجنبي خلال فترة متوسطة، خاصة مع التكاليف الضخمة التي تتحملها الحكومة السعودية، مثل تمويل حرب اليمن وسد عجز الموازنة البالغ نحو 51 مليار دولار، وهروب الأموال القلقة من الاعتقالات الأخيرة، علما أن الاحتياطي فقد حوالي 74 مليار دولار خلال عام واحد، (في الفترة من أغسطس/ آب 2016 إلى أغسطس 2017)، وهو مؤشر خطر، خاصة إذا ما علمنا أن إجمالي ما فقده الاحتياطي منذ ديسمبر/ كانون الأول 2014 وحتى أغسطس 2017 يبلغ حوالي 245 مليار دولار، وهو ما يعادل ثلث الاحتياطي.
لكن بالمعايير السياسية كل شيء وارد، ويمكن اتخاذ قرار تعويم الريال إذا ما استمرت عملية نزوح الأموال من الداخل للخارج، خاصة من قبل أمراء ورجال أعمال يمتلكون مئات المليارات من الدولارات في حسابتهم لدى البنوك السعودية، وقد تأتي الخطوة على غرار قرارات فجائية أخرى، مثل خوض حرب اليمن ضد الحوثيين وفرض حصار اقتصادي على قطر والإعلان عن إقامة مشروع "نيوم" بكلفة 500 مليار دولار دون الكشف عن دراسات جدوى للمشروع وبيع 5% من أسهم شركة أرامكو وهي الدجاجة التي تبيض ذهبا للمملكة.
الأزمة السعودية مفتوحة على كل الاتجاهات، لكن لا أظن أن محطتها ستصل إلى حد تعويم عملتها المربوطة بالدولار في القريب العاجل، لأن هذه الخطوة لها مخاطرها السياسية قبل الاقتصادية، فالولايات المتحدة الرافضة لتخلي السعودية عن سياسة "البترودولار" وبيع نفطها في الأسواق العالمية بالعملة الأميركية، وترفض بيع السعودية نفطها للصين باليوان، سترفض وبقوة فك المملكة ربط عملتها بالدولار وهي السياسة المطبقة منذ أكثر من 30 سنة.
أضف تعليقك