تمـر ذكـرى ميـلاد النبـى الأعظـم -صلى الله عليه وسلم- هذا العام، وأمته ممزقة الأوصال، مهيضة الجناح، مشتتة الفكر، ليس لها قرار، وكأنى به صلى الله عليه وسلم يعاتبها لزيغها وضلالها صراطه المستقيم، وكأنه ينادى خِيرَتَها: هلموا إلى سنتى أيها الناس، عضوا عليها بالنواجذ، أوصيكم بكتاب ربكم، لا تتخذوه مهجورًا؛ فإن فعلتم لن تضلوا بعدى أبدًا، بل سوف تعيشون سعداء، وتموتون أعزاء.
وكأن حوارًا دار بينى وبينه -صلى الله عليه وسلم- أستفتيه فى حال هذه الأمة، وكيف الخروج من الوحل الذى سقطت أو أُسقطت فيه، وكأنه يجيبنى إجابة واحدة قاطعة: عيشوا على ما عشت عليه تسعدوا، وقبل أن تحتفلوا بذكرى ميلادى أو وفاتى، احتفوا بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى.
فما كان عيش رسول الله؟ وما كان سلوكه وأخلاقه التى أوصلته إلى تلك الدرجة المحمودة العالية؟ وقد ربى عليها أصحابه الذين ربوا عليها تابعيهم فحازوا سعادة الدارين، وكانوا مصابيح هدي، أناروا الدنيا بالعلم والإيمان، وأخرجوها بأخلاقهم الراقية من الظلمات إلى النور.
كان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس، ليس عن عجز أو قلة؛ فقد خُيِّر بين أن يكون ملكًا نبيا أو عبدًا رسولا؛ فاختار أن يكون عبدًا رسولا، فقال الله: {تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا} [الفرقان 10].
وكان أصدق الناس، وأكثرهم وفاء وأمانة، وكان أحسن الناس خلقًا؛ أكيسهم وأحلمهم، وأصبرهم، وأعفهم لسانًا، وأحفظهم جوارح؛ فما من خلق سمع به الأولون والآخرون إلا كان على كماله فى هذا النبى العظيم؛ ولذا قال الله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]؛ لاستيعاب شخصه الأكرم لتلك الخلال التى تكفى واحدة منها لأن يشار إلى الرجل الذى يحملها بالفضل والعظمة.
وكان صلى الله عليه وسلم جوادًا كريمًا، باذلا معطاء، يعطى عطاء من لا يخشى الفقر، قال لمن جاء يسأله الحاجة عقب غزوة حنين -وكان نصيبه صلى الله عليه وسلم من الغنائم يملأ ما بين جبلين-: أتعجبك؟ -أى كل التى بين الجبلين- قال الرجل نعم، قال النبي: خذها فهى لك؛ فأخذها الرجل وذهب لقومه مسرعًا يقول: يا قومى أسلموا، جئتكم من عند من لا يخشى الفقر.
وكان يعيش الدنيا على وجل منها؛ لعلمه أنها متاع زائل، وغرور بائد؛ من جعلها أكبر همه أصابته لوثاتها، وأكبته على وجهه خسرها وخسر الآخرة، ومن زهدها عاش رشيدًا ومات سعيدًا.
وحذر صلى الله عليه وسلم أمته من حب الدنيا وكراهية الموت، وإلا تداعت إليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وهو ما جرى لأمتنا منذ عقود؛ إذ لما رقعت دنياها بتمزيق دينها، قذف الله فى قلب أبنائها الوهن فركبهم الأبيض والأسود، والعظيم والحقير، حتى تسلط عليهم اليهود، وهم أحط خلق الله، فما يستطيعون -أى المسلمين- من نجاة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يترك ساعة موته درهمًا ولا دينارًا، ولا عبدًا ولا أمة، ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضًا جعلها صدقة؛ وهو القائل: «ازهد مما فى أيدى الناس يحبك الناس»، وقد كان يدعو كثيرًا بهذا الدعاء: «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا...».
وعاش صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام وبعده، وفيًّا أمينًا، وهل نزل عليه الوحى (أمانة السماء) إلا لما رُكِّب فيه من أصل هذا الخلق، وهل هناك شهادة أكفى من شهادة الأعداء؟ لقد شهدوا بوفائه وأمانته وصدقه، فقالوا له: ما جربنا عليك كذبًا قط، وأودعوا أماناتهم لديه فى الوقت الذى كانوا يتآمرون فيه لقتله.
ولما سُئل أحدهم عن حقيقة اتهامهم له بالكذب وباختلاق الرسالة أنكر ما قد فعلوا، وقال: كنا وبنو عبد مناف كفرسى رهان؛ إذا أطعموا أطعمنا، وإذا سقوا سقينا حتى قالوا منا نبى، فأنزل الله {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
نقول فى ذكرى ميلاد أعظم مولود فى الوجود: والله لو سلكتم مسلكه -صلى الله عليه وسلم- ما شقيتم ولا تعستم ولا بئستم، ولانفتحت عليكم الدنيا حتى لتكفوها عنكم، ولتسيدتم الناس وصرتم رءوسًا لهم؛ ولقد صدقت أمنا خديجة -رضوان الله عليها- التى أنطقها الله بحكمة الدهر فقالت لزوجها النبى وقت فزعه لما عاد من الغار يقول زملونى زملونى، قالت: أبشر، كلا والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتصدق الحديث..
أجل لا يخزى الله المؤمنين ما داموا على هذا النهج وتلك الصورة من الخلق النبوى الرفيع، والله -تعالى- يعلم ما فى قلوب العباد، ينظر إليها ولا ينظر إلى الصور، والله يرضيه أن نتخلق بخلق مصطفاه ونسير على نهجه ونعيش كما كان يعيش، ولا يرضيه أن ننظم الاحتفالات بيومى مولده ووفاته ونحن أبعد الناس عن سننه وهديه.
اللهم ألحقنا به غير مبدلين ولا مغيرين.
أضف تعليقك