بقلم: عمار مطاوع
اليوم، تكمل المعتقلة السياسية المصرية الشابة إسراء خالد 3 سنوات خلف القضبان، دون تهمة واضحة رغم وصول مجموع الأحكام المدنية والعسكرية ضدها إلى 18 سنة. في مثل هذا اليوم قبل 3 سنوات، اعتقلت حملة أمنية في محافظة بني سويف 3 فتيات من منازلهن (شيماء شوقي- مها فهمي- إسراء خالد) بزعم مشاركتهن الصباحية في تظاهرة بالجامعة. لم يكن الخبر لافتا جدا مقارنة بما كان يصاحبه من اعتقالات مماثلة في جامعة الأزهر واقتحامات مصورة في وضح النهار.
تحرك المحامون في المحافظة الجنوبية للاطلاع على محضر الفتيات، ليؤكدوا قرب خروجهن خلال ساعات حيث المحضر فارغ ولا أحراز فيه ولا أدلة سوى تحريات وادعاءات أمنية، ثم إن بني سويف لا يُعرف عنها الإبقاء على حبس السيدات، وأن العرق الصعيدي لا يزال غالبا هناك، أو هكذا كنا نظن. بالفعل، مرّت الليلة الأولى وخرجت الفتيات.. لكن لحظة، خرجت اثنتان فقط!.. هناك فتاة ثالثة أبقى المحققون عليها.. اسمها إسراء خالد.. لا ليست سارة خالد معتقلة دبوس رابعة بالقاهرة والتي كانت محكومة وقتها بالسجن عامين.. هذه إسراء خالد.
يؤكد المحامي أنه لا داعي للقلق، فإسراء والدها معتقل منذ سنوات، ربما هذا هو السبب في الإبقاء عليها، لكن الأكيد أنها ستخرج خلال أيام، ليس هناك محضر، ولا شهود ولا أدلة ولا أحراز ولا حتى اتهام واضح بأي جريمة قانونية.. هكذا كان يقول المحامي والمنطق والواقع وسابق التجارب والخبرات.
في هذه الأثناء، كتبتْ المعتقلة السابقة جهاد الخياط -التي كانت قد خرجت لتوها من المعتقل- ذكرياتها أثناء رحلة اعتقالها، وقالت إن أكثر ما كان يرعبها في السجن هي كلمات السجان لها من خلف القضبان: إنتي فاكرة إن حد بره يعرف عنك حاجة؟ إنتي هتموتي هنا ومحدش هيسمع عنك. كانت لتلك الكلمات وقع مؤثر لم يخفت يوما في قلوب المهتمين بهذا الملف، وبسببها وضعتْ زينب المهدي خطتها الكبرى لـحصر جميع الفتيات المحبوسات في مصر، كانت تقول إن ما شعرت به جهاد لا يمكن أن يتكرر مرة أخرى، وإن علينا أن نوصل رسالة للجميع أنه لا فتاة تعتقل في مصر إلا وهناك من يراقبها ويهتم لأمرها.
في هذا الإطار، حاولتُ جاهدا أن أوصل رسالة لإسراء أن هناك من يعرف قصتها، ويعلم كل صغيرة وكبيرة عن محبسها، وينشر للإعلام كل ما تعانيه.. وتُوجت تلك المحاولات أخيرا حين استطاع المحامي في عرض النيابة أن يمنحني دقائق في مهاتفة إسراء، تلك المكالمة التي لم أستطع يوما أن أنساها، لأنني قطعتُ لها وعدا لم أستطع الوفاء به. عرّفتُ نفسي إليها، وطلبتُ منها أن تهدأ وتطمئن إلى أنها غير منسية، وأن كل لحظة تمر عليها هناك من يراقبها ويعلم تفاصيلها وينشرها للناس، وأن فريقا كاملا يتابع مع المحامين وإدارة القسم كل ما يتعلق بها.. كانت إسراء تحاول إظهار الثبات بما فيه الكفاية، لكنها لم تستطع أن تخفي خوفها وهي تسألني: طيب والمحامين قالولكم إيه؟ هأخرج بسرعة؟ ليه أنا بس اللي سابوني هنا؟
لا أعرف من أين جئت بكل تلك الثقة وأنا أقسم لها بالله أن الأمر لا يزيد على أن يكون محاولة لـ"التكدير" ليس إلا؛ لأن والدها معتقل سياسي، بينما بقية البنات لا أحد في عائلاتهن يشتغل بالسياسة والنشاط العام، وأنها قطعا ستخرج خلال أيام.. هذا أمر لا جدال فيه يا إسراء. انتهت المكالمة، وخرجت نتيجة التحقيق صادمة للغاية، حبسها 15 يوما على ذمة اتهامها بالمشاركة في تظاهرات جامعة بني سويف التي تؤلب المواطنين وتهدد السلم المجتمعي. 15 يوما أعقبتها أخرى فأخرى فأخرى، ثم كانت الفاجعة بنقلها إلى سجن المنيا.. أصيب المحامي بالجنون وفقد القدرة على تفسير ما يحدث!
استقبلت الجنائيات في سجن المنيا إسراء باعتداء كبير، كونها السياسية الوحيدة في السجن الكبير كله.. لم أزر سجن المنيا في حياتي، لكني زرت سجن القناطر الرئيسي المركزي عدة مرات، وأتصور كيف ستكون الحياة داخل سجن مهمل في صعيد مصر، أو لنقل: كيف سيكون الموت.
إسراء، الفتاة الجامعية التي ضاع حقها في التعليم والحياة، كانت تكتب رسائلها كل زيارة وتعطيها لزوارها، ربما لأنها تظن أن الجيش الإعلامي الذي ينتظر أخبارها لا يزال مهتما بالدرجة نفسها لمعرفة أخبارها.. ربما لهذا كانت دائما ما توجه رسالتها للمتابعين: "أيًا كان مين هيقرأ الكلام.. جه على بالي كده إني لما أطلع نفسي أركب عجلة، أو ألعب بطيارة ورق أو أشوف النيل الصبح أو أبص في الشمس لحد ما عيني توجعني، أو أشوف القمر اللي بقالي 626 يوما مش شفته.. ده الي قررته إنه لو جاتلي الفرصة، فأنا بردو مش هبصله غير وأنا "حرة".. مش هبصله من شباك السجن ولا من عربية الترحيلات! هو أنا مش عارفه هو أنا لما أطلع هيبقى لسه عندي الطاقة اللي تخليني أعمل كل ده ولا لأ؟ عارفين؟ أنا مش بكره مصر.. أنا مقهورة منها! مقهورة منها و عايزه أفهّمها ده.. بس هي ما بتفهمش!".
طال حبس إسراء الاحتياطي قبل صدور أول حكم بحقها، وفقد والدها المعتقل الأمل في رؤيتها بعدما اشتد عليه المرض في زنزانته فمات بالإهمال الطبي دون أن يودعها.. لم تكن إسراء تعلم بموت والدها حتى عرض النيابة التالي.. وقد كان يوما مشهودا. حاولتْ الفتيات الزائرات في سراي النيابة أن يخفين عن إسراء موت والدها، لكن أمين شرطة بادرها بقوله: البقاء لله، هما ما قالولكيش إن أبوكي مات! تنفجر إسراء في الصراخ والبكاء.. لقطة لم نكن لنعلم عنها شيئا لولا أن هاتف صديقة لها قد التقطت جانبا منها.
وبعد ملل من طول المحاكمة في قضيتها الواحدة اليتيمة، انفتح سيل غير مفهوم من المحاضر في وجه إسراء، لتجد نفسها اليوم تحاكم في 6 قضايا؛ ثلاثة منها عسكرية، بمجموع أحكام يزيد عن 13 سنة. لا يفهم المحامي سببا لهذا كله، لا تفهم إسراء نفسها ما يحدث، ويبدو أنها فقدت أخيرا الرغبة في الفهم بعدما أرهقتها المحاولة، تقول في رسالتها الأخيرة: "عزيزتي مصر، أكتب لك بعد 970 يوما في السجن، وفي انتظار الحكم رقم (٦) بعد مجموع أحكام (١٣ سنة) في قضايا مختلفة، حصلو إمتى ولا فين الله أعلم! بكتبلك بس للتوضيح إني ماكنش عندي أي نية خبيثة تجاهك، ولا كان عندي أي نية لمؤامرة كونية مع فضائيين كانت عينهم منك يا "بهية" عزيزتي بيقولو عليكي أم الدنيا، وهي فعلا ماكنتش هتلاقي أحسن منك أم.. مش قادرة أقولك سامحيني لو في حاجة ماعجبتكيش في كلامي، إنتي اللي وصلتيني لكده لما نسيتي إنك أم، أو حتى محاولتيش تحبيني، مع إني برج الحوت".
لا أعرف كثيرا عن إسراء الآن أكثر من أنني لم أستطع الوفاء لها بالوعد، وأكثر من إحساسي بالعجز كلما قرأت عنها خبرا، وأكثر من اطمئناني عليها من محاميها الذي باتت إجاباته مؤخرا مقتضبة جدا وهو يقول: ادعيلها بس، وخلي الناس تدعيلها.
أضف تعليقك