• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم:د. مكارم الديري

عند تأسيس الإمام البنا- رحمه الله- لجماعة الإخوان المسلمين عام 1928م كان واقع المرأة المسلمة يشهد تراجعًا ملحوظًا في ظل حياة الجهل والاستبداد من جهة، وبين دعوات تغريب المجتمع، ومحاولة القضاء على كل مظهر من مظاهر الحياة الإسلامية، واقتلاع قيمه من عقول أبنائه من جهةٍ أخرى.

فقد توارت شمس الحضارة الإسلامية، وتم القضاء على دولة الخلافة الإسلامية عام 1924م بعد أن ظلت رمزًا لوحدة المسلمين عبر قرونٍ طويلة، وقوة يهابها أعداؤها حتى وصلت في عهدها الأخير إلى حالةٍ من الترهل والشيخوخة، مما أغرى أعداؤها على النيل منها، واحتلالها ثم تقسيمها إلى دويلات صغيرة حتى لا تقوم لها قائمة مرة أخرى.

يقول المستشرق "جيب":

"المقصود من الجهود المبذولة لحمل العالم الإسلامي على الحضارة الغربية هو عدم وحدة الحضارة الإسلامية التي تقوم عليها وحدة المسلمين؛ لأن كل قطر سيتجه إلى اقتباس ما يلائم ظروفه من هذه الحضارة، وعند ذلك تتعدد أساليب الاقتباس بتعدد البيئات الإسلامية المختلفة، فتفقد الحضارة الإسلامية طابعها الموحد، بل لا يعود هناك شيء اسمه الحضارة الإسلامية؛ ثم يتساءل: المهم هل ستكون هناك ميول مشتركة بين الشعوب الإسلامية؟ وهل سيقوم إحساس بوحدة العمل ووحدة الهدف؟ أم أن الآراء الجديدة وحاجات الحياة الجديدة ستنجح آخر الأمر في تشتيت المجتمع الإسلامي وتحطيم وحدته.

من هنا نعرف لماذا قامت جماعة الإخوان المسلمين؟ ولماذا كانت دعوة الإمام البنا إلى الوحدة الإسلامية، ومقاومة الاحتلال من أهم أسباب قيام جماعة الإخوان المسلمين، كامتداد لحركة الإصلاح الإسلامي التي نادى بها جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده، والشيخ رشيد رضا وغيرهم من زعماء البعث الإسلامي، مع تميز منهج الإمام البنا بشموله وعالميته، وبالتطبيق العملي لما يؤمن به في المجتمع وما يؤمن به هو الإسلام وقيمه ومبادئه.

 

فقد استفاد من تجارب من سبقوه من هولاء الزعماء، وجمع صفوة ما وصلوا إليه في منهج واحد (فالأفغاني كان يرى الإصلاح عن طريق الحكم، ويراه محمد عبده عن طريق التربية، وقد استطاع البنا أن يدمج بين الوسيلتين معًا، وأن يأخذ بهما، كما أنه وصل إلى ما لم يصلا إليه، وجمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة، إلى توجه موحد، وهدف محدد".

لم يكن أيضًا تفكيك الوحدة الإسلامية هو الهدف الوحيد من تغريب المجتمعات التي تدين بالإسلام، ولكن كراهية الحضارة الإسلامية، واعتبارها أهم عائق من عوائق الاستسلام لهيمنة القوى الاستعمارية، وكنتيجة للاختلاف الأيديولوجي بين الحضارتين، وقد صرَّح بهذه الكراهية العديد من مفكري الغرب وزعمائهم، ومنهم اللورد كرومر- المندوب السامي البريطاني- لمصر خلال فترة الاحتلال البريطاني مطلع القرن العشرين؛ حيث قال:

إن الإسلام بطبيعة تعاليمه عدو للحضارة الأوروبية، وأن المسلم غير المتخلق بأخلاق الأوروبيين لا يقوى على حكم مصر؛ لذلك سيكون المستقبل الوزاري للمصريين الذين تربوا تربية أوروبية، وتوصيف كرومر المدنية الأوروبية بالحضارة خطأ في الفهم، والمسلمون لا يرفضون من هذه المدنية إلا الثقافة كقيمة وسلوك اجتماعي، وهو ما يختلفون فيه عن هذه الثقافة.

وهؤلاء المتربون على موائد الغرب كرهوا الثقافة الإسلامية، وتحرروا من الكثير من قيم وسلوك الإسلام وآدابه، بل منهم من ربطها بالجهل والتخلف، وقد اعتبرهم العديد من زعماء الإصلاح الإسلامي والزعماء الوطنيين من الخونة الممالئين للاحتلال، فنرى الزعيم مصطفى كامل يعتبرهم خائنين للوطن، ودعا إلى مقاومتهم وفضح ألاعيبهم، فهو يعلم جيدًا أن أهم أهداف الاحتلال هو تغريب المجتمع الإسلامي، ليصبح كيانًا تابعًا للاستعمار في فكره وثقافته المناهضة لقيم وآداب المجتمعات الإسلامية، فغالبًا ما يتبع المقهور ثقافة الغالب، إما عن جهل أو إعجاب به.

والمرأة في خضم هذا الصراع الثقافي هي أصل وأساس في التغيير الاجتماعي المنشود، وهي حجر الزاوية لكل التيارات الإصلاحية في المجتمع، فمنها من ينادي بالأخذ بأساليب المدنية الأوروبية في فكرها، وثقافتها، وعاداتها، ومنطلقاتها بخيرها وشرها، ومنها من يدعو إلى الإصلاح بالقيم والآداب الإسلامية، وآخرون ينادون بالتوفيق بين الحضارتين و"بأن الإسلام هو الأساس الذي يجب أن يقوم عليه الإصلاح، ولكنهم فسروا النصوص الدينية تفسيرًا يقبل معه كثيرًا من أساليب الحياة والتفكير الوافد من الغرب.

وكانت قضايا الحجاب والسفور والاختلاط، وعمل المرأة، ومحاولة تغيير بعض القوانين الخاصة بالأسرة من القضايا الأكثر جدلاً في المجتمع المصري آنذاك، أما قضية تعليم المرأة فقد كانت محل اتفاق بين جميع الإصلاحيين على السواء والاختلاف، عما يمكن أن تتعلمه المرأة؛ حيث كان التعليم في عهد الاحتلال يتجه إلى التغريب والتعليم الديني يُنظر إليه بالتخلف والاستهزاء.

ومما يؤكد ذلك مقولة المستشرق "جيب" بأن التعليم من أهم وسائل التغريب، وذلك في قوله:
"وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم على الأسلوب الغربي في العالم الإسلامي، ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين وقليل من المتدينين".

الإمام البنا وقضايا المرأة

جاء اهتمام الإمام البنا بالمرأة كأحد أهم أهداف الجماعة نحو بناء مجتمع ملتزم بالقيم الدينية، والأخلاقية، ولتكوين الشخصية الإسلامية المتكاملة وتنميتها، وفق المبادئ الإسلامية الصحيحة، بدءًا من إعداد المسلم في عقيدته وروحه وعقله، وخلقه، وجسمه، وعلمه، وعمله إلى إعداد البيت المسلم إعدادًا فاعلًا، ثم العمل على تربية المجتمع تربية شاملة، يسودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو في كل ذلك مؤمنًا بإعداد المرأة والرجل معًا على ذات المنهج للمشاركة في تنفيذ البرنامج الإصلاحي المنشود؛ ولذلك فقد نصت اللائحة الداخلية للنظام الأساسي للأخوات عام 1932 على مشاركة الأخوات في حدود ظروفهن وجهودهن في تحقيق البرنامج الإصلاحي الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين العامة.

وهذا ما يؤكد إيمان الإمام حسن البنا بأهمية دور المرأة كأخت للرجل لتحقيق مشروعه الإصلاحي، فقد وضح لديه دور المرأة في الإسلام، وما كان له من أثر بعيد في تكوين الرجال، وتحقيق المبادئ التي قامت عليها دولة الإسلام منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وها هي تُكلف من قبل الإمام البنا بهذه المهمة الكبرى، وهي مشاركة في إصلاح المجتمع.

فضلاً على ذلك فهو يؤمن بأهمية المرأة في الأسرة وأثرها البعيد على تربية النشء وبناء المجتمع فيقول:

"فهي نصف الشعب، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته أبلغ الأثر؛ لأنها المدرسة التي تكون الأجيال وتصوغ الناشئة، وعلى الصورة التي يتلقاها الطفل من أمه يتوقف مصير الشعب، واتجاه الأمة، وهي بعد ذلك المؤثر الأول في حياة الرجال والشباب على السواء.

اهتم الإمام البنا بقضايا المرأة التي كانت تشغل مجتمعه آنذاك، وما زالت مثارًا للجدل إلى يومنا هذا، وكان له فيها مواقف وآراء، ومن هذه القضايا: الحقوق والواجبات بين الزوجين، مسألة القوامة في الأسرة، والتبرج والسفور والاختلاط بين الجنسين، أهمية دور المرأة في الأسرة ووظيفتها الأساسية كأم وزوجة، والآثار السلبية المنعكسة على الأسرة نتيجة إثارة قضايا الحجاب والسفور، وعمل المرأة، والاختلاط، وقضايا الطلاق، والتعدد، وغير ذلك من القضايا التي تؤثر على استقرار الأسرة والمجتمع.

ففي مجال الحقوق والواجبات يقول الإمام البنا:

إن المرأة شريكة للرجل في الحقوق والواجبات، واعتبرها الإسلام أختًا للرجل بحقوقها الشخصية كاملة، وبحقوقها المدنية كاملة، كذلك وبحقوقها السياسية كاملة، وعاملها على إنها إنسان كامل الإنسانية له حق يُشكر إذا أدى واجباته، ويجب أن تصل إليه حقوقه، والقرآن الكريم والأحاديث الشريفة فياضة بالنصوص التي تؤكد على هذا المعنى وتوضيحه.

فهو يشير إلى الحقوق والواجبات التي أقرها الإسلام للمرأة في حياتها الزوجية والمدنية والسياسية، وحق المساواة في الإنسانية، ويؤكد على أن هذه الحقوق يجب أن تحصل عليها المرأة.

قضية القوامة:

ينطلق الإمام البنا في هذه القضية من خلال احترام الإسلام للتنوع البيولوجي للجنسين (وليس الذكر كالأنثى)، ولا يعني ذلك استعلاءً أو تكريمًا، وإنما يعني تنوع في الاختصاص والمهام، طالما تؤمن بأن هناك أمومة وأبوة، ولذلك فإن رؤيته لهذه القضية تنبع من ثلاث محددات: 
الأول: الاختلاف بين الزوجين فطري:

فيقول: الرجل كائن والمرأة كائن، وللرجل مهمته، وللمرأة مهمتها، يقول تعالى في شأن تكوين الأسرة، وتنظيم شئونها﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة:228)، فقرر أن الأسرة دولة بينهما، وأنها تتكون منهما، وإنما تكون القوامة للرجل ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ (النساء:34)، وذلك للاختلاف الفطري بينهما طالما نؤمن بأن هناك أمومة وأبوة.

الثاني: الاختلاف الفطري يترتب عليه اختلاف المهمتين، وفي نظم الحياة المتصلة بكل منهما "وذلك يعني في نظام الأسرة الطبيعية، والذي يقره الإسلام أن للمرأة مسئوليات زوجية وأمومة تشمل الحمل، والإنجاب، والإرضاع رعاية وتربية الأطفال، وأن للرجل دوره في الإنفاق على هذه الأسرة، وتولي شئونها، وتوفير حاجاتها المادية والاجتماعية.

الثالث: التجاذب الفطري بين الجنسين يؤسس لعلاقة زوجية متوازنة:

يقول الإمام البنا عن العلاقة الزوجية بأن أساسها التجاذب الفطري، وأن الغاية من هذه العلاقة لا تقوم على مجرد المتعة وحدها، ولكن على التعاون معًا للمحافظة على النوع، وتحمل متاعب الحياة، فضلاً عن التجاذب النفسي الذي يسمو بهذه العلاقة عن صور الاستمتاع البحت إلى صورة رائعة من العلاقة الروحية التي تُبنى على التعاون التام بين الزوجين كما في قوله تعالى: ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودةً ورحمة﴾ (الروم:21).

قضايا الطلاق والتعدد:

وهي من القضايا التي كانت تهتم بها بعض الجهات التحررية في مصر لعمل تغيير في قوانين الأسرة، وعن ذلك يحدثنا الإمام فيقول: تقدمت الحكومة المصرية في الأربعينيات من القرن العشرين بمشروعات قوانين تحد من تعدد الزوجات، وتقيد حق الرجل في الطلاق، مما أثار بعض الشباب، واعتبروا ذلك تحريم لما أحله الله، وحمل الناس على نهج يزيد الأمر فسادًا على فساد، كما يتداوي شارب الخمر بالخمر، وكان رد الإمام البنا على ذلك منطلقًا من منهج الله (عز وجل) مراعيًا مصالح المجتمع وحقوق الزوجة، والإمام البنا في تناوله لهذه القضية انتهج العرض المنطقي للقضية، ملتزمًا بوضع حل لها كعادته في كل الأمور، فبدأ بتحديد القاعدة الشرعية لقضيتي تقييد حرية الطلاق، وتعدد الزوجات، وذكر أنهما ليسا محل خلاف في الإسلام.

 

ثم عرض للمشكلة وهي إساءة استخدام الأزواج هذه الحقوق، مما يترتب عليها ظلم وإساءة للمرأة، وبذلك يثبت أن هناك فرق بين الحق الشرعي، وبين طريقة استخدام هذا الحق، فالمشكلة ليست في التشريع الحنيف، ولكنها في سوء تطبيقه، وتلك هي مشكلة مجتمع يجهل آداب دينه "تسوده الفوضى الخلقية التي أدت بالأسرة إلى التحلل والاضطراب إلى درجة تصم السميع وتعمي البصير"، كما يقول الإمام البنا.

فحدد الإمام البنا أساس المشكلة هنا في أمرين:

1 - سوء استخدام الأزواج لحقوقهم الشرعية.

2 - الجهل والفوضى الخلقية والتحلل الخلقي.

ثم وضع الإمام البنا رؤيته للحل في البحث عن أسباب المشكلة، ووجد أن الأمر في حاجة إلى علاج جذري، كي يصبح الحل ناجعًا، ويكمن هذا الحل في التربية، وهو المنهج الذي التزمه الإمام البنا لتغيير المجتمعات الإسلامية.

حيث يبدأ مع تربية الفتيان والفتيات تربية إسلامية عفيفة طاهرة، ومصادرة الصحف والمجلات والروايات والمسارح والسينما..إلخ، التي تستغل في الناس أخس مشاعرهم، وأحط غرائزهم، ثم تشجيع الزواج، وإقناع الشباب بالغاية الصحيحة منه وإفهامهم بأنه شركة على احتمال أعباء الحياة، لا جنة محفوفة بالروح والريحان، مغمورة بالمشاعر الملتهبة، وتعريف كل من الزوجين حقه وواجبه في حدود قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة:228)، فلا يكون بعد ذلك إلا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فالحل الذي وضعه الإمام البنا يتلخص فيما يأتي:

1 - التربية الإسلامية الصحيحة.

2 - مصادرة الإعلام الهابط.

3 - تشجيع الزواج ومعرفة أهدافه.

4 - بيان حقوق وواجبات كل من الزوجين.

 التدخل الحكومي

وهو يرى أنه لا مانع من تدخل أولي الأمر أو الحكومة، باعتبارها المسئولة عن شئون الناس العامة لوضع حدٍّ لفوضى سوء استعمال الناس لهذه الحقوق بشرط أن يكون ذلك حمايةً للأوضاع الإسلامية، وبالكيفية التي رسمها الإسلام لاستخدام هذه الحقوق.

ويرى أن تدخل الحكومة إنما يكون لحماية شرط العدل، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾(النساء:3).

ولا مانع أيضًا من تدخل الحكومة لتجعل القاضي وسيطًا في الصلح، يندب حكمًا من أهله، وحكمًا من أهلها قبل الطلاق، كما يقول تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ (النساء: 35).

ولكن أي حكومةٍ يمكنها تنفيذ ذلك؟ يقول: الحكومة التي تراعي في مشروعاتها للطالب الفكرة الإسلامية، وعدم مصادمة قواعد الشريعة الإسلامية، فلا يترتب على ذلك تحريم حلال أو تحليل حرام.

فضلاً على ذلك يدعو إلى التيقن من الدافع الحقيقي وراء ذلك، هل هو المصلحة العامة، أم شهوة بعض الأفراد؟.

قضية عمل المرأة ومشاركتها السياسية

كان للإمام البنا في هذا الموضوع رأي خاص، لم يعلنه كحكمٍ شرعي، ولكنه نظر إليه انطلاقًا من أحوال المجتمع المصري وواقعه، تحت الاحتلال الذي أدرك أنَّ من أهم أسباب وجوده هو تغيير هذه المجتمعات، واستئصال قيمها الأخلاقية والدينية، وكان قد تم عرض موضوع اشتغال المرأة بالمحاماة على مجلس النواب المصري، وإباحة حق الانتخاب للمرأة عام 1944م، وقد تمَّت موافقة المجلس على إباحة اشتغال المرأة بالمحاماة، ورفض حقها في الانتخاب في مجتمعٍ أغلبه يُعاني الأمية الثقافية والفكرية والدينية الصحيحة، وفي سياقٍ زمني مختلف.

يعلق الإمام البنا على هذا الموضوع في قوله:

"ولنا في هذه القضية نظرات هادئة نتوجه بها إلى المهتمين بهذه القضية، ويجب أن نكون جميعًا ممن يهتمون بها، فهي قضية الأخلاق، وقضية الأسرة، وقضية المدنية والعالم؛ فما نظنّ أن شيئًا جنى على الناس قديمًا، أو سيجني عليهم حديثًا، إلا سُوء فهمهم للأوضاع، وتحكم الهوى، ومخالفة التكوين الطبعي، الذي لا يمكن أن يتخلف عن سنةِ الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

فالإمام البنا يعرض رأيه في هذه القضية ليس انطلاقًا من حكمٍ شرعي، فحسب ولكن يهتم برصد الواقع، وتحليل أوجه قصوره، ثم يبحث عن أسباب العلل والفساد، فيعرضها تاركًا الحكم النهائي بالرفض، أو الاقتناع للمهتمين بهذا الأمر.

فهو يناقش هذه القضية من خلال عدة أمور:

الأول: هو مخاطبة العقل والمنطق؛ وذلك حين يضع قضيتي العمل بالمحاماة، وحق المرأة في الانتخاب في موضع مفاضلة، وبين قضايا إنسانية كبرى ترتبط بمصير أمة وحضارة إنسانية، وهي قضية الأخلاق وقضية الأسرة، وقضية الأمة؛ فالمرأة ركيزة أساسية في هذه القضايا الكبرى، ومراعاة هذه القضايا الثلاث هو أساس لصناعة حضارة إنسانية من جانب ونجاح للمرأة في القضايا الأقل أهميةً من جانب آخر.

فالحضارة لا تنهض في أمةٍ متدنيةٍ أخلاقيًّا تغفل قيمها، وتتبرأ منها، ولا تقوم على أُسرٍ متهالكة ضعيفة الوشائج ممزقة العلاقات، ولا تتفوق بأمة لا تعي أهدافها، أو تربط مصيرها بغيرها من الأمم، ولا فائدة مرجوة من محامية يقف دورها عند حدِّ الوظيفة، أو حدِّ تفوقها الشخصي ما لم يرتبط ذلك برسالةٍ تؤديها في أسرتها أو في سبيل عزة أمتها، ولا أهمية لناخبة أمية، أو متعلمة جاهلة بأهدافها في الحياة، فهي في الحالين لا تستطيع إحسان اختيار مَن يمثلها في المجالس النيابية.

وكذلك الأمر بالنسبة للرجال، فهم كما يقول الإمام البنا: "إن أكثر من 60% من الرجال لا يهتمون بحق الانتخاب، ولا يعرفون كيف ينتفعون أو يضعونه في موضعه، فضلاً على أن عدد المقيدين في الجداول وعدد المنتخبين بالفعل يشير إلى ضعف المشاركة السياسية للرجال، فيجب الاهتمام بتربية هؤلاء الرجال تربيةً وطنيةً، تغرس المعاني السياسية العليا في نفوسهم وأرواحهم".

فالإمام البنا يدرك جيدًا أن الهدف من إثارة مثل هذه القضايا حينذاك، هو إلهاء المرأة وشغلها عن دورها الأساسي الفاعل في الأسرةِ كأم، ومربية نشء لها قدرات خاصة تتميز بها عن الرجال في هذا المقام.

ولا يقوم مقامها فيه أي من الرجال، وليس من عاقلٍ يرى أن الهدف الأول والأساسي والوحيد للمرأة في الحياة أن تكون محامية، أو طبيبة.. أو أن دورها ينحصر في الكدِّ والسعي من أجل لقمة العيش دون حاجةٍ إلى ذلك، أو حاجة المجتمع، فتشارك الرجل في ذلك؛ ولكن مَن يشاركها في الحمل والوضع والإرضاع؟ والمجتمع غافل عن توفير أدنى ضمانات الرعاية والأماكن لها ولأولادها.

وفي حياة المرأة دور أهم ودور أقل أهمية، وأن نجاحها في الدور الأهم هو أساس بناء الأمة؛ لأنه يتعلق ببناء الإنسان ذاته، وحين ترى أن عملها أكثر أهميةً فعليها ألا تنجب.

ويأتي حذر الإمام البنا من انشغال المرأة بمثل هذه القضايا، وفي سياقٍ زمني متقدم لم تكن المرأة على قدرٍ كبيرٍ من الوعي الديني الصحيح، كي تكون على وعي بالمحاذير الشرعية في الاختلاط والسفور في ظل سيادة الفكر التغريبي للمجتمع، مما سينعكس سلبًا على حياة المرأة، ومستقبل الحياة الزوجية والأسرة بوجهٍ عام.

من هذا المنطلق جاء حذر الإمام البنا، فالقضية الأهم لديه هي قضية الأخلاق والأسرة والمدنية.

الأمر الثاني: إثباته لعدم مصداقية هذه الدعاوى، وأنها زائفة وصدى لدعاوى التغريب، ويرى أن أصحاب هذه الدعاوى غير مخلصين في دعواهم في الحرص على إنصاف المرأة والسمو بمنزلتها في المجتمع، ولكن أهوائهم غلبت على نفوسهم، والدليل على ذلك أنهم أرادوا للمرأة أن تشتغل بالمحاماة، وهم بالأمس القريب فكروا في التشدد في شروط قبول الشباب في جدول المحامين، وصار كثير منهم لا يجد عملاً حتى زاحموا الكتبة العموميين على أبواب المحاكم.

ثم يقدم حلاًّ طريفًا لمشكلة المحامين والمحاميات فيقول: "أفما كان الأولى والأجدر أن يقرر مجلس النواب المصري إلزام المحاميات بأن يتزوجن محامين، فيضرب العصفورين بحجر واحد، ويفرج أزمتين، أزمة المحاماة وأزمة الزواج معًا بقرار واحد، ويضع بذلك أساسًا سليمًا قوي الدعائم للتعاون لا للتزاحم".

لم تكن رؤية الإمام البنا لعمل المرأة شاذة عن سياقها التاريخي، وهو عام 1944م، وظروف مجتمع يعاني الأمية والاحتلال، وما أشاعه من فوضى خلقية، وصفها في قوله: "لا أظن اثنين يختلفان في أن الإسلام الحنيف يحرم تحريمًا قاطعًا، هذه الفوضى الخلقية والإباحية السائدة التي تتجلى في مجتمعاتنا وأحفالنا، والصور التي تنشرها جرائدنا ومجلاتنا، ومهما قيل عن أن كشف الوجه والكفين يجيزه الإسلام، فليس في الدنيا كلها مسلم واحد يقول إن الإسلام يبيح هذا الكشف الفاضح عن مواضع الزينة، ويسيغ هذه الأزياء المتهالكة التي تشف وتصف معًا، وليس في الدنيا كلها مسلم واحد يقول بجواز خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية عنه من غير أن يكون معهما محرم.

هذا الوضع لا يقره الإسلام بحالٍ ولا يقر ما يؤدي إليه، فكل عمل أو تصرف يكون من شأنه اختلاط المرأة بالأجانب عنها يحرمه الإسلام ولا يرضاه.

وما كان الاقتراح الذي قدَّمه بشأن حلِّ مشكلة المحامين والمحاميات إلا محل نظر واعتبار، فهو يعرض موقفًا مشابهًا عن وضع المرأة في ألمانيا وعملها، ومشكلة بطالة الشباب؛ حيث إن القانون الألماني آنذاك كان يحظر على المرأة المتزوجة أن تعمل خارج المنزل، ولهذا فقد أعلنت شركة دخان كبرى مكافأة لكل فتاة تجد عريسًا قبل انتهاء السنة الحالية، بأن تحصل على مكافأةٍ قدرها ستمائة مارك، وهي تأمل بذلك أن تزيد الإقبال على الزواج، وتخفض- جهد المستطاع- عدد العاملات في مصالحها، وتقول هذه الشركة: إن كل وظيفة تخلو بسبب زواج الفتيات تستخدم فيها رجالاً للتخفيف من وطأةِ البطالة.

وقد صدق رأي الإمام البنا أنَّ هذه الدعاوى زائفة، وأن هناك أهدافًا أخرى لا تقف عند حد مشاركة المرأة في العمل فحسب، ولكي يتضح الآن الهدف الحقيقي لذلك؛ وهو تحرير المرأة المزعوم من أعباء الحياة الزوجية وقوامة الزوج على الأسرة، المستهدف هو تغيير نظام الأسرة، كما هو واقع في الغرب من خلال التعدي على قوانين الأسرة في الشريعة الإسلامية، وإحلال قوانين مدنية بعيدة عن الشريعة الإسلامية، ولكنها تُعبِّر عن جوهر الحضارة الغربية التي أدَّت إلى تحلل نظام الأسرة، وتربى الأطفال في الملاجئ ودور الرعاية البديلة.

المنهج التطبيقي للإمام البنا مع المرأة في الواقع العملي وينقسم إلى: مجال العمل العام ومجال أسرته

في مجال العمل العام:

اهتم الإمام البنا منذ بداية دعوته بمشاركة المرأة في العمل على تحقيق البرنامج الإصلاحي للإخوان المسلمين، كما نصَّت على ذلك اللائحة الداخلية للنظام الأساسي للأخوات المسلمات.

وكان من الضروري قيام الأخوات بهذه المهمة الخطيرة من الإعداد والتربية الصحيحة من خلال برامج تربوية، تستهدف بناء العقيدة الصحيحة، وتنمية عقولهن، وتقويم سلوكهن، وتزويدهن بالعلوم العصرية المختلفة مع الاهتمام ببناء القوة البدنية والروحية معًا، كمنظومةٍ كاملةٍ نحو بناء الفرد المسلم القادر على تولي المسئوليات، وتحمل الأعباء.

ولتحقيق هذه الأهداف قام الإمام البنا منذ بداية دعوته ببناء مدرسة مع أول مسجد للإخوان عام 1928م الموافق 17 من رمضان 1348هـ، سميت هذه المدرسة بمدرسة "أمهات المؤمنين"، وقد جمعت الدراسة في هذه المدرسة بين آداب الإسلام، وبين العلوم النظرية والعملية التي تقتضيها ظرف العصر آنذاك، وكان إنشاء مثل هذه المدرسة في وقت سادت فيه الأمية، وخاصةً بين النساء، وتعذر وجود مثل هذا النوع من المدارس الذي يجمع بين العلوم الدينية والمدنية، وقد كان التعليم في معظمه مدنيًّا يجري على الأسلوب الغربي والمبادئ الغربية والتفكير الغربي.

ثم أنشأ الإمام البنا بعد ذلك قسمًا للأخوات المسلمات يتألف من نساء الإخوان وبناتهن وقريباتهن، أطلق عليه بعد ذلك اسم "فرقة الأخوات المسلمات"، وبأسلوبٍ علمي ممنهج وضع الإمام البنا لفرقة الأخوات المسلمات لائحة تنظم العمل، وحدد لها أهدافها ووسائلها، ونظامها الداخلي، وكان الغرض من تكوين هذه الفرقة: التمسك بالآداب الإسلامية والدعوة إلى الفضيلة، وبيان أضرار الخرافات الشائعة بين المسلمات، أي الالتزام بالإسلام الصحيح، وتنقيته من العادات والتقاليد الفاسدة.

وكان يرأس هذه الفرقة المرشد العام لجمعيات الإخوان المسلمين، وجميع أعضائها إخوان في المبدأ، وتوزيع الأعمال.

بعد انتقال إدارة الإخوان إلى القاهرة، تكونت فرقة للأخوات المسلمات عام 1352هـ- 1932م.

وفي أول خطاب من رئيسة الفرقة السيدة لبيبة أحمد إلى الأخوات المسلمات بينت لهن الحالة المتردية التي كان يعيشها المجتمع المصري آنذاك قائلة لهن: بأن الأمة في تدهور خلقي، وخلل اجتماعي، بدأت أعراضه في كل مظاهر الحياة في المنزل، وفي الشارع، وفي المصنع، وفي المتجر، وفي كل بيئة، وفي كل وسط، وأن أساس إصلاح الأمة إصلاح الأسرة، وأول إصلاح الأسرة إصلاح الفتاة؛ لأن المرأة أستاذ العالم، ولأن المرأة التي تهز المهد بيمينها، تهز العالم بيسراها، ووجهت المرأة إلى العناية بإصلاح الأمة من خلال تعاليم الإسلام وأحكامه.

وقد أدرك الإمام البنا أهمية تربية كوادر وقيادات نسائية كطليعة لسيدات ملتزمات بقيم الإسلام يستطعن توجيه المجتمع، وإصلاح حال المرأة، ومن هذا المنطلق اهتم بتربية الأخوات، وتربية قيادات منهن؛ فكان يعطي لستة منهن درسًا أسبوعيًا خاصًا يتناول فيه العديد من الأمور التربوية والعقائدية والمواقف العامة، كما سعى إلى تكوين كوادر نسائية تكون كطليعة قيادية في مجتمع المرأة المسلمة، وتمثيل الإسلام في المحافل المختلفة وبصورة راقية، فقد جمع الأخوات الجامعيات والمثقفات، وكان عددهن آنذاك مائة وعشرين أختًا ليلقي عليهن درسًا أسبوعيًا لمدة عام كامل بدأه بالعقيدة، ثم تلاه بالعديد من أمور الدين والدنيا.

والبرنامج التربوي للإخوان المسلمين يهتم بالمرأة اهتمامه بالرجل، وبنفس القدر، كما يصرح بذلك الإمام البنا في قوله: "نريد الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته وفي خلقه وعاطفته، ونريد بعد ذلك البيت المسلم في تفكيره وعقيدته، وفي خلقه، وفي عاطفته، وفي عمله وتصرفه، ونحن لهذا نعنى بالمرأة عنايتنا بالرجل، ونعنى بالطفولة عنايتنا بالشباب، وهذا هو تكويننا الأسري.

وقد اعتمد منهج التربية للأخوات على التربية الروحية والثقافية؛ فشملت القرآن الكريم، العقائد، السنة المطهرة، وتراجم للرائدات الصحابيات في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) والتاريخ الإسلامي، وتزكية النفس وفقه الدعوة، والفكر الإسلامي والعلوم الحديثة، فضلاً على الاهتمام بشئون البيت والأسرة، وتعلم كيفية ضبطها بسلوك الإسلام وآدابه، وكيفية العمل على بناء علاقات أسرية ناجحة، ومحاولة إيجاد برامج لإصلاح حال الأسرة، وحل مشكلاتها، وتقديم نماذج صالحة من الأخوات والشباب والأمهات والآباء إلى المجتمع.

أهم أهداف البرنامج التربوي للأخوات:

1- بعث الروح الدينية، والتعاليم الإسلامية الكفيلة بتكوين شخصيات نسائية مهذبة تستطيع تحقيق البرنامج الإصلاحي للإخوان المسلمين.

2- التعريف بالفضائل والآداب الزكية للنفس والموجهة للخير والكمال.

3- الإرشاد إلى طرق التربية الصحيحة النافعة التي تضمن لأبنائهن النمو الجسمي، والعقلي، وتجنبهم الإسراف الصحي والنقص العقلي.

4- العمل على صبغ البيت بالصبغة الإسلامية، وبث تعاليم القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وسيرة أمهات المؤمنين، وفضليات النساء.

5- محاربة البدع، والخرافات، والأباطيل، والترهات، والأفكار الخاطئة، والعادات السيئة التي تنتشر وتروج بين النساء.

6- نشر الثقافة والمعارف التي توسع مداركهن من الثقافات الحديثة.

7- الاهتمام بالشئون المنزلية، وقيام الأسرة على أساس إسلامي صحيح.

8- المشاركة في المشروعات الاجتماعية النافعة بما يتناسب مع ظروفهن وجهودهن ومن ذلك: المستوصفات، دور الطفولة، رعاية اليتامى، أندية الصبيان، المدارس، تنظيم مساعدة الأسر الفقيرة، ووضع لائحة لكل مشروع وهيئة إدارية تشرف عليها طبقًا لأحكام القانون رقم 49 لسنة 1945م، وتسجل وزارة الشئون الاجتماعية.

9- المعاونة في حدود ظروفهن بجهودهن في تحقيق البرنامج الإصلاحي الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين العامة.

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، وبعد أعداد متكامل لمن يقوم بهذه الأنشطة، ثم وضع هيئة تأسيسية تتألف من الأخوات العاملات بالقاهرة والأقاليم إلى تاريخ 1951م، وعددهن خمسون.

أنشطة الأخوات في المجال العام:

تنوعت مجالات الأنشطة التي تقوم بها المرأة في جماعة الإخوان المسلمين في عهد الإمام البنا، لتشمل النشاط الدعوي والاجتماعي، فضلاً على مواقفهن السياسية ودورهن في فترات المحن، وغياب الأزواج في غياهب السجون والمعتقدات، بدءًا من قضيتي السيارة الجيب عام 1948م، مرورًا بصدور قرار حل جماعة الإخوان المسلمين ثم العهد الناصري فيما بعد.

أثناء محنة 1948م، قام قسم الأخوات بتشكيل لجنتين للقيام بدورهن خلال هذه المحنة، أولهما: إعداد الطعام، والملابس، والأدوية للإخوان بالسجون، وغسل الملابس وتنظيفها، واللجنة الثانية مهمتها زيارة أسر الإخوان المسجونين بصفة مستمرة، ودعمهم ماديًّا وأدبيًّا، وخاصة الفقراء منهم، وتقديم الشكاوى، والاحتجاجات إلى الجهات المسئولة.

كما تم إنشاء مدرسة اليتيمات عام 1946م، وتسمى "دار التربية الإسلامية للفتاة"، وكانت مديرتها آنذاك السيدة فاطمة عبد الهادي، ورئيس مجلس إدارتها السيدة آمال عشماوي.

امتد نشاط الأخوات إلى إقامة وتنظيم معارض خيرية سنوية داخل وخارج مصر، ومن ذلك قيام الأخت سعاد الجيار عام 1948م، بفتح اكتتاب عام لإنشاء مقبرة خاصة بالمسلمين في أمريكا، وإنشاء مدرسة لتعليم الأطفال اللغة العربية والدين الإسلامي.

وعن مثل هذه الأنشطة تتحدث إحدى السيدات، وهي السيدة فاطمة عبد الهادي- زوجة الشهيد يوسف هواش، فتقول: انتدبني العشماوي باشا من وزارة التربية والتعليم لأكون مسئولة مدرسة التربية الإسلامية للفتيات بالمنيا، والمشغل التابع لها، وبحمد الله كان لنا نشاط واضح، ومؤثر بين الطبقات الراقية، فكانت الأخت آمال عشماوي تحضر أسر البشاوات، ليحيكوا ملابسهن لدينا في المشغل، وتقيم حفلات في نادي الجزيرة، ومعارض خيرية سنوية، تشمل المشغولات اليدوية والملابس، ومستحضرات التجميل، المخللات وغيرها، وكانت تلقى إقبالاً كبيرًا بفضل الله.

وبعد استشهاد الإمام البنا بعدة أعوام، تم افتتاح مستوصف بإمبابة عام 1954م، امتدادًا للدور الذي قام به الأخوات في عهد الإمام البنا، واقتصر العمل فيه على المتطوعين من الإخوان وغيرهم، وكان غير قاصر على السيدات وحدهن، ولكن كان هناك أطباء من بينهم الدكتور أحمد الملط (رحمه الله) الذي كان المؤسس الأول للجمعية الطبية الإسلامية في ثمانينيات القرن العشرين.

مواجهة التنصير

وقفت بعض الأخوات في وجه الإرساليات التبشيرية الأجنبية في مصر، فكن يطرقن أبواب الموسرين قائلات لهن: إن الإرساليات التبشيرية الأجنبية ترسل الحلوى والهدايا لتشتري بها العقيدة، وأنتم مسئولون أمام الله، فقوموا الآن بواجبكم، وتعالوا معي نزور هذه الأحياء، ولتلقوا إلى أهلها بالهدايا، وببعض ما للناس عندكم من حق معلوم، وبذلك قطعن خط الرجعة على المبشرات اللائي ولين الأدبار.

كما كانت الأخوات قد قسمن أنفسهن في فرق ولجان، فلجنة في كل شعبة من شعبهن للتعرف على سيدات الحي، وبث الدعوة الصحية والاجتماعية والدينية بينهن، سيما الطبقة العامة، فتذهب الأخوات ومعهن الحلوى والهدايا والعقاقير الصحية يطرقن أبواب المنازل، ويجلسن إلى الأطفال ويرشدن الأمهات، حتى إذا ما عدن إلى دار الشعبة قدمن تقريرًا عن حالة الأسرة، وإن كانت الناحية الخلقية في حاجة إلى إرشاد قام بذلك قسم الإرشاد، وإن كانت في حاجة إلى معونة مالية أو كان رب الأسرة متعطلاً، كان كل ذلك موضع الدراسة، وكذلك شأن قسم زيارة المستشفيات، وتقديم الهدايا للفقيرات المريضات، وقسم لإرشاد سيدات الطبقة العامة في الباحثات عن الوقار اللازم لاحترام الموتى، والإقلاع عن العادات الذميمة التي ليست من الدين، ثم مدارس الجمعة للفتيات الصغيرات، وقد أصبح عدد وفير من مثقفات المدينة من طبيبات ومعلمات وناظرات، يتابعن بعطف وتقدير هذه الأنشطة.

في مجال العمل السياسي:

كان لقسم الأخوات مواقف صلبة وحاسمة، بل وشجاعة رائدة بالنسبة لهذه الفترة من تاريخ مصر، فقد وقفن في وجه الاحتلال الإنجليزي وأعوانه، فقد قامت الأخوات المسلمات عام 1946م، بتقديم احتجاج إلى المندوب السامي البريطاني بالقاهرة على اعتداء جنوده على المصريين الآمنين.

وقد قمن بأدوار جريئة أيضًا في مواجهة السلطات المصرية آنذاك، فبعد قرار حل جماعة الإخوان المسلمين سلم الإمام البنا مجموعة من الأخوات مذكرة تفند خطأ مبررات الحل، وطفن بها على مكاتب الوزراء ومجلس النواب والشيوخ، والقصر الملكي، ورئاسة الوزراء.

ولا ننسى ما قامت به الحاجة زينب الغزالي في مجال دعوة الإخوان المسلمين؛ حيث بايعت الإمام حسن البنا سنة 1948م، وقدمت عطاءها في مجال الدعوة إلى ما يزيد على نصف قرن من الزمان، وكان لها دور كبير في مجال النضال السياسي في عهد الملك وعند عبد الناصر والسادات ومبارك.

ومن متابعة مسيرة عمل الأخوات المسلمات وفق منهج الإمام البنا، ووضع البرامج العملية لتفعيل دور المرأة في العمل العام والاجتماعي والاستفادة من قدرات المثقفات والجامعيات والعاملات في حقل التدريس والطب، وغير ذلك من الأعمال ما يؤكد أولاً بأنه لم ينكر على سيدات الجماعة امتهانهن لمهنة شريفة في المجتمع في ضوء مراعاة الضوابط الإسلامية.

ثانيًا: إيمانه بدور المرأة في العمل العام والاجتماعي لم يكن مجرد تصريحات أو آراء مطروحة، ولكنه لجأ للتطبيق العملي لما يؤمن به، من قيم ومبادئ الإسلام التي كانت حية نابضة في شرايينه، وواقعًا عمليًّا في سلوكه؛ حيث ترجمها إلى منهج قابل للتطبيق غير الكثير من واقع المرأة المسلمة.

الإمام البنا وأسرته

التزم الإمام البنا بأدبيات الإسلام في بيته سلوكًا ومنهجًا، فكان ابنًا بارًا، وزوجًا مخلصًا محبًّا لزوجته، ووالدًا حانيًا عطوفًا على إخوته وأبنائه، مهذبًا في سلوكه، مربيًا نصوحًا واصلاً لرحمه ورحم زوجته.

وكان للمرأة في بيت الإمام المؤسس الاحترام، والتقدير، والرعاية، فالمرأة تمثل له الأم والأخت والزوجة والابنة والخادمة، التزم معهن جميعًا بأدب الإسلام وقيمه وفضائله، واهتم بأسرته اهتمامًا بالغًا، فجعلها من القلب والوجدان قرة عينه، وحمل مسئولياتها بشرف ورجولة "فقد شارك أسرته كل همومها، وتحمل النصيب الأوفى من مسئولياتها، وخفف عن والده عبء تربية أشقائه، والإنفاق عليهم، فكان في سلوكه مع أسرته ينطلق من دوافع رب الأسرة وليس مجرد فرد فيها".

علاقته بأمه:

كان الإمام البنا وثيق الصلة بأسرته بارًا بوالديه ومحبًّا لهما يتأدب معهما بأدب الإسلام، فهو عطوف مقر معترف بصنيعهما لا يناديهما إلا بما يوقرهما، ويدل على هيبته وإجلاله لهما، ففي خطاباته إليهما نراه يردد عبارات سيدي الوالد، سيدتي الوالدة، ومن خطاباته التي تدل على مدى حبه لأمه في خطاب يقول فيه عن أمه: "والله إني لأقضي الساعات الطوال في ألم لتألم والدتي، وفي تفكير كيف أرضيها وكيف أسعدها، وكيف أجعلها هانئة مغتبطة، فهل يوفقني الله إلى هذه الأمنية؟ خطر لي أن أزوركم كل شهر مرة لا لشيء إلا لأراكم وأشرف بتقبيل يديكم ويدي والدتي، وأحظى بدعوة صالحة من دعواتكم، وعسى أن يكون هذا مرضيًا لوالدتي بعض الرضا.

فالإمام البنا الذي تأدب بأدب الإسلام، ونشأْ في ظل منهجه يدرك تمام الإدراك نعمة بر الوالدين، والإحسان إليهما، ويدرك أيضًا أن الأم لها ثلاثة أرباع البر عن الأب، ولذا فهو معني بإرضائها وتقبيل يديها، والتفكير في كيفية إرضائها وإسعادها، ويجعل من ذلك أمنية له فيتساءل: هل يوفقني الله إلى هذه الأمنية؟

الإمام البنا مع زوجته:

اقترن الإمام البنا بفتاة اختارتها له والدته، أهم مؤهلاتها حسن دينها؛ حيث سمعتها والدته وهي تصلي وتقرأ القرآن بصوت خاشع، فرحب الإمام البنا بهذا الاختيار، واقترن بها، ويقول عن ذلك: "كأنما أراد الله أن يخفف عن نفسي وقع هذه الفتن، فأتاح لي فرصة الزواج، وتم الأمر في سهولة ويسر وبساطة غريبة، خطوبة في غرة رمضان تقريبًا، فعقد في المسجد ليلة السابع والعشرين منه، فزفاف في العاشر من ذي القعدة بعده وقضي الأمر والحمد لله".

وهكذا نرى أن الإمام البنا كان زواجه نموذجًا للزواج الذي يفضله الإسلام، ليكون مثلاً ونموذجًا يقتدى؛ حيث سارع في الزواج طلبًا للعفة والإحصان، والزواج في سهولة ويسر وبساطة، فلا تعقيدات ولا شروط مسبقة، أو مؤجلة، والفتاة ذات دين، والعقد تم في المسجد، والزفاف بعد مدة قصيرة من العقد، لا تتجاوز الشهر، وهكذا بدأ الإمام المؤسس تأسيس أركان أسرته وأولى لبناتها، فقد كان للأسرة اهتمام كبير في مشروعه باعتبارها الركيزةَ الأساسيةَ التي إن صلحت صلح المجتمع، ورسخ بنيانه وصمد في مواجهة ما يتعرض له من تحديات، وفي القلب من الأسرة الأم التي هي بمثابة الشجرة الطيبة، التي تمد بقيم الحب والحنان، والثمرات الصالحة.

وكان حرص الإمام البنا على اختيار الزوجة الصالحة المتدينة هو أول تطبيق عملي لما يؤمن به، فهي كما يقول: "نصف الشعب، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته..".

كان الإمام المؤسس (رحمه الله) إنسانًا ناجحًا في حياته الأسرية والعملية، وقد كان يقول: إذا وجد الرجل المؤمن وجدت معه عوامل النجاح، ولذا فقد كان لإيمانه القوي بالله، والتزامه بمنهجه وسلوكه مخلصًا لدعوته، عاكفًا على تأسيس مشروعه لنهضة الأمة، كما كان أيضًا إنسانًا ناجحًا في بيته وأسرته واصلاً لأرحامه وأصهاره أيضًا:

يقول أحمد سيف الإسلام عن والده الإمام البنا: "حرص (رضي الله عنه) أن يعرف أقارب زوجته فردًا فردًا، وكل ما يرتبط بها بصلة رحم، وأحصاهم عدًا وزارهم ووصلهم جميعًا.

ومن هنا ندرك كيف يمكن للعلاقات الإنسانية أن تتوطد ووشائج الأرحام أن تتلاحم، وصلات الأبناء بالأرحام كيف تؤسس من خلال علاقات زوجية ناجحة، وممارسة عملية من الآباء مع الأرحام أمام أبنائهم.

تميز الإمام البنا بسمات جعلته زوجًا ناجحًا محبوبًا في أهله، ومن ذلك أنه "كان مع زوجته هادئ الطبع، واسع الصدر، هينًا لينًا، لم يرتفع له صوت على أحد في البيت، لأي سبب من الأسباب، يعاون زوجته في بعض أعباء البيت رغم انشغاله بأعباء الدعوة، كان دقيقًا في تصرفاته، منظمًا لشئونه، نافعًا لبيته، حرص على أن يكتب مذكرةً صغيرةً بكل احتياجات البيت الوقتية، حتى يحضرها بنفسه، أو يكلف من يحضرها، على علم بكل شيء يخص المنزل حتى موعد تخزين الأشياء كالسمن والبصل والثوم.

بمثل هذا الخلق الرفيع مع زوجته، كان رحمه الله نموذجًا للزوج الصالح الناجح، يتمثل الإسلام في قيمه ومبادئه، ويلتزم بسلوك رسوله الكريم مع أهل بيته، وكان عليه الصلاة والسلام هاشًا باشًا وفي مهنة أهله.

الإمام المؤسس مع أبنائه:

أن أهم ما يميز الإمام البنا في علاقته بأبنائه هو الالتزام التربوي العملي، وفي قدرته على بناء الشخصية السوية، التي تؤسس على الإيمان بالله ومراقبته، والاحترام، وتحري الصدق والأمانة، والحب واللين، فقد كانت هذه القيم جانب أصيل في منهجه التربوي الذي التزمه في داخل أسرته وخارجها.

تحكي سناء البنا عن والدها فتقول:

"كنا لا نحس فيه الغلظة، يغمرنا بالمودة والرحمة والعطف، ينادينا بأحب الأسماء إلينا، يدخل البيت يطمئن على غطاء كل الأبناء، يتناول عَشَاءه المعد له سلفًا على المائدة دون إيقاظ الوالدة، أو أحد من أهل البيت".

ومن هنا ندرك كيف كان يملك القدرة الفائقة في التأثير على سلوك الأبناء نتيجة لهذا الخلق الطيب معهم كمعلم وقدوة، ووالد حنون، فالتوجيه بالحب والالتزام والقدوة من أهم سمات المربي الصالح.

يقول عنه ابنه أحمد سيف الاسلام: أنه كان عطوفًا إلى أقصى درجة، يراعي مشاعر الطفولة في أبنائه بشكل كبير، وكان لديه القدرة على جعلنا نطيعه دون حاجة إلى أمره.

ومع التزامه التربية الصحيحة مع أولاده، فقد عني أيضًا بتعليم إخوته وأبنائه، يستوي في ذلك ابنه سيف مع إخوته البنات، وفي خطاب وجهه إلى والده دليل واضح على اهتمامه بتعليم أخته فاطمة فيقول: "أما فاطمة فأنا أوصيها كلما سنحت الفرصة الوصايا التهذيبية، وسأشرع معها في القراءة والكتابة بحول الله وقوته.

ولا يخفى علينا مكانة بناته العلمية اليوم، فقد اهتم بتعليمهن، وحصلت ثلاث منهن على الدكتوراة في الطب، وفي التجارة، وفي الاقتصاد المنزلي، وذلك لأنهن نشأن في بيت علم ودين، فكلما كان والدهم (رحمه الله) يؤمن بأهمية دور المرأة الصالحة المتعلمة في أسرتها ومجتمعها آمن بأهمية التفوق العلمي ودوره في حياة المرأة والمجتمع.

تعليم الخادمة

كما اهتم الإمام البنا بتعليم الخادمة؛ حيث كلف ابنته الكبرى وفاء بأن تعلم الخادمة القراءة والكتابة والصلاة.

وقدم (رحمه الله) أروع المثل في تحقيق المساواة التي نادى بها الإسلام، ليس مع الأبناء والأولاد فحسب، ولكن أيضًا مع الخادم في بيته، فقد كان لها من الحقوق والتكريم، كما كان لأبنائه وأفراد أسرته، فكان يوصي أبنائه بإحسان معاملتها، وقد حدث أن عاقب ابنته سناء ذات مرة لأنها عاملتها معاملةً غير لائقة، وكان للخادم في بيته سرير مستقل، ودرج للملابس مستقل في دولاب الأولاد، وتأكل مما يأكلون وتشرب مما يشربون وتلبس مما يلبسون.

هذه جوانب مضيئة عن المرأة في أدبيات الإمام البنا من خلال فكره ومنهجه وأسلوبه العملي، الذي غير كثيرًا من واقع المرأة؛ حيث تؤتي دعوته ثمارها في جيل الصحوة الإسلامية اليوم، فنرى مظاهرها في الشارع، وفي كثير من مؤسسات المجتمع، ولدى العديد من المفكرين وقادة الرأي، وحمل العديد منهم فكرته الإسلامية، وبرامجه التربوية؛ حيث تحولت إلى مشروع حضاري للأمة، فرحم الله إمامنا المؤسس الذي حاول أن يؤسس صرحًا ضخمًا على كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وهو بناء الأفراد والمؤسسات التي تستضيء بنور الإسلام، وتسير على هديه ومنهجه.

وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾.(الأحزاب:23)

أضف تعليقك