الدكتور محمد داود
حاصر مسلمة بن عبد الملك حصنا، فأصابهم فيه جَهد عظيم، فندب الناس إلى نقب منه، فما دخله أحد، فجاء رجل من الجند،فدخله ففتح الله عليهم، فنادى منادي مسلمة، أين صاحب النقب؟ فما جاء أحد حتى نادى مرتين أو ثلاثًا أو أربعًا، فجاء في الرابعة رجل فقال: أنا أيها الأمير صاحب النقب آخذ عهودًا ومواثيقَ ثلاثًا؛ لا تسودوا اسمي في صحيفة، ولا تأمروا لي بشيء، ولا تشغلوني عن أمري، فقال له مسلمة: قد فعلنا ذلك بك، قال: فغاب بعد ذلك فلم يُرَ،قال: فكان مسلمة بعد ذلك يقول في دبر صلاته: اللهم احشرني مع صاحب النقب.
*****
هذا الموقف البطولي الفذ يحمل قيمًا هادية، كما يدعونا إلى إطلالة على الحكمة من الفتوحات الإسلامية: فلم تكن الفتوحات نشر دعوة الإسلام، دون إجبار ولا إكراه، وكان الناس يدخلون فى دين الإسلام أفواجًا بسبب أخلاق الفاتحين وحسن المعاملة وكريم العشرة.
لقد كان الفاتحون يؤمِّنون الناس ـ فشتى أحوالهم ـ على أديانهم وممتلكاتهم، لا يهدمون معبدًا ولا كنيسة، لا يقطعون زرعًا ولا شجرًا، لا يقتلون حيوانًا، ويؤمِّنون الشيوخ والنساء والأطفال.
أما دلالات الموقف، فأهمها:
• الدلالة الأولى: أن الصعاب تحتاج إلى البطولات التي ترغِّب في الشهادة في سبيل الله، وأن الفدائية والتضحية هي مفتاح النصر في الحروب، فقد امتنع الحصن على المسلمين، وحاول جنود اقتحامه ولم يفلحوا أمام وابل السهام التي تخرج من الحصن؛ لتواجه من يحاول الاقتراب منه.
إن موازين المعركة تتغير مع الفداء والتضحية، وهل قام هذا الدين إلا على التضحية والفداء؟
• الدلالة الثانية: الإخلاص وابتغاء ما عند الله تعالى. فأمام هذه البطولة الفذة، وأمام هذه التضحية التي لفتت انتباه القائد والجنود، آثر صاحبها أن ينال ثوابها من الله ـ وحده ـ، فذكره عند الله يبقى، بينما الذكر عند الناس يفنى.
إنهم كانوا يضحون لا من أجل شهرة أو من أجل مجد دنيوي، بل كانوا يخافون على طاعتهم من ذكر الناس لها. يخافون أن يدخلها الرياء.
وصدق الله العظيم إذ يقول:(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)(المؤمنون/60).
فحين سألت السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«بلهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم! أولئك الذين يسارعون فى الخيرات».والإخلاص لله في الأعمال يباركها، وينفع بها؛ لذلك نفع الله بعمل صاحب النقب.
• الدلالة الثالثة: موقف القائد وحسن متابعته لأحوال جنوده، وأن مبدأ الثواب والعقاب له أثره في صلاح الرعية، فمن أحسن فله المكافأة؛ لذلك سأل القائد عن هذا الفدائي البطل. سأل عنه فلم يُجب أحد، ثم خرج الفدائي يقول: أنا أعرف هذا الفدائي بشرط ألا تسألني عن اسمه،، فوافقه، فقال: أنا هو، ثم دخل سريعًا بين الصفوف كي لا يعرف.
وضرب هذا الجندي مثلًا في الإخلاص الصادق؛ مما جعل القائد مسلمة يدعو في صلاته: اللهم احشرني مع صاحب النقب.
أضف تعليقك