• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانيتين

الشباب في كل زمان هم الأمل الذي يحدو بالأمة إلى العز التليد والمجد الأثيل، وهم موضع النظر منذ عهد النبوة وإلى يوم الدين؛ لأن في استقامتهم العز والتمكين، وقد حظيت الأمة في تاريخها كله بنماذج فريدة من هؤلاء الشباب الأتقياء الشجعان الذين يقولون الحق ولا يخافون سوط ظالم أو جور مستبد. 

ويقدم لكم "الشرقية أون لاين" سلسلة من الأئمة الذين جاهرو بكلمة حق في وجة السلاطين المستبدة وعلماء السلطان الذين باعوا دينهم بدنياهم، ومن هؤلاء العالم الشاب الشجاع حطيط الزيات، وهو بيننا اليوم نموذج للشباب الثائر.

من هو حطيط الزيات؟

ولد حطيط الزيات في أسرة متواضعة في الكوفة ببلاد العراق، حوالي سنة 66هـ، في ظل خلافة عبد الملك بن مروان (65هـ – 86هـ)، ويبدو من اسمه أنه كان يعمل زياتًا في بلاد الكوفة، إلا أن ذلك لم يمنعه من العلم وملازمة حِلَق الفقه، فالتحق بمجالس كبار العلماء في الكوفة والبصرة ودمشق وبلاد الشام، وأدرك جماعة من التابعين، وتفقه على أيديهم، حتى علا نجمه وارتفع اسمه.

ومع صغر سنه، قصده طلاب العلم، فروَى عنه جعفر بن أبي المغيرة والكثير من الكوفيين، وارتفع في منزلته حتى وضعه ابن حبان في ثقات أهل الكوفة.

من أخلاق حطيط

كان حطيط الزيات ممن تعلقت قلوبهم بطاعة الله تعالى، واشتهر عنه أنه كان صوَّامًا قوَّامًا قارئًا للقرآن، يختم في كل يوم وليلة ختمة، يجاهد نفسَه لتربيتها وتقويم اعوجاجها، حتى أنه كان يخرج من البصرة ماشيًا حافيًا إلى مكة في كل سنة.

حطيط الزيات وثورة عبد الرحمن بن الأشعث

كان الخُلُق الفريد الذي اشتهر به حطيط الزيات بين أقرانه صدعه بالحق، فكانت لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد شاء الله تعالى لحطيط أن يعيش في العراق زمن ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي (75هـ – 95هـ)، الذي اكتوى به الكثير من العلماء والصلحاء من المسلمين.

ولما كانت ثورة عبد الرحمن بن الأشعث سنة 81هـ ضد جور الحجاج بن يوسف الثقفي، والتي كانت من أخطر الثورات التي قامت على الدولة الأموية أو أخطرها، حيث هددت كيان الخلافة بالزوال واضطرت الخليفة إلى مساومة أصحابها بما لم يساوم به غيرهم من أصحاب الثورات السابقة. فقد ناصرها أهل البصرة والكوفة وانضم إليه أهل الثغور وكثير من الموالي.

وكان من قوة ثورة ابن الأشعث أن انضم إليها العديد من العلماء والفقهاء، سواء بتحريض الناس على المشاركة فيها أو بمشاركتهم المباشرة في القتال مع ابن الأشعث ضد الحجاج، وقد استفاضت المصادر المتقدمة في ذكر تأييد العلماء ومشاركتهم في هذه الحركة، كما اجتمعت على كثرة عدد العلماء المشاركين ولكن على اختلاف بينهم في تقدير هذا العدد، فيذكر خليفة بن خياط، أن عددهم بلغ خمسمائة عالم، وعدَّ منهم خمسة وعشرين عالماً، منهم: الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى والإمام الشعبي على كره منه، وسعيد بن جبير.

وكان حطيط الزيات في ذلك الحين قد بلغ خمس عشرة سنة، ولم يكن بمنأى عن هذه الأحداث، وهو الشاب الشجاع الصادع بالحق، فوقف بجانب الفقهاء في مناصرة عبد الرحمن بن الأشعث في ثورته ضد الحجاج.

ومع ذلك استطاع الحجاج بن يوسف أن يقمع ثورة ابن الأشعث بعد ثمانين موقعة أريقت فيها دماء عشرات الألوف من المسلمين، أشهرها يوم الزاوية وموقعة دير الجماجم، والتي استمرت مائة يوم حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث في الرابع من جماد الآخرة سنة 83هـ، حيث هرب ابن الأشعث إلى سجستان، وهناك مات سنة 85هـ.

حطيط الزيات والحجاج بن يوسف الثقفي

خلال أحداث الثورة العارمة كان الحجاج بن يوسف يسجل في ذاكرته كلَّ مَنْ ناصر ابن الأشعث، لينتقم منهم في لحظة القصاص، وكان أشهرهم: سعيد بن جبير وحطيط الزيات.

أرسل الحجاج بن يوسف في طلب الشاب حطيط الزيات، فأُتِيَ به إليه. وبينهما دار هذا الحوار.

قال له الحجاج: إيها .. أنت حطيط.

قال حطيط: نعم. سل عما بدا لك, فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال: إن سئلت لأصدقن, وإن ابتليت لأصبرن, وإن عوقبت لأشكرن، ولأحمدن الله تعالى على ذلك.

قال له الحجاج: ما تقول في أبي بكر وعمر؟

قال حطيط: أقول فيهما خيرًا.

قال الحجاج: ما تقول في عثمان؟

قال حطيط: ما ولدت في زمانه.

فقال له الحجاج: يا ابن اللخناء (المرأة التي لم تُخْتَن، واللخن هو النتن)، ولدت في زمان أبي بكر وعمر ولم تولد في زمن عثمان!

فقال له حطيط: يا ابن اللخناء، إني وجدت الناس اجتمعوا في أبي بكر وعمر فقلت بقولهم، ووجدت الناس اختلفوا في عثمان فوسعني السكوت.

قال الحجاج: فما تقول فيّ؟

قال حطيط: أقول فيك إنك عدو الله، تقتل على الظُّنَّة.

قال الحجاج: فما قولك في أمير المؤمنين (يعني عبد الملك بن مروان)؟

قال حطيط: أنت شررةٌ من شرره، وهو أعظم جرمًا منك.

فأمر الحجاج أن يضعوا عليه العذاب، فقال معد لعنه الله (معد صاحب عذاب الحجاج): “إني أريد أن تدفعه إليَّ، فوالله لأسمعنك صياحه”، فسلمه إليه، فجعل يعذبه ليلته كلها وهو ساكت، فلما كان وقت الصبح كسر ساق حطيط، ثم دخل عليه الحجاج لعنه الله فقال له: ما فعلت بأسيرك، فقال: إن رأى الأمير أن يأخذه مني، فقد أفسد عليَّ أهل سجني. فقال له الحجاج: عليَّ به.

فعذبه الحجاج بأنواع العذاب وهو صابر، فكان يأتي بالمسال فيغرزها في جسمه وهو صابر، فلم يقل حسًا ولا بسًا، فأخبروا الحجاج، فأمر بالقصب فشقِّق، ثم شُدَّ على حطيط وصب عليه الخل والملح وجعل يستل قصبة قصبة، حتى انتحلوا لحمه، ومع ذلك كله لم يقل حسًّا ولا بسًّا، ولم يسمعوا منه ضجرًا ولا قولًا.

فأتوا الحجاج فأخبروه، فقال: أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه. يقول تلميذه وصاحبه جعفر بن أبي المغيرة: فأنا رأيته حين أُخْرِجَ، فأتاه صاحب له فعرض عليه الماء عند الموت، فأبى وقال: لا أشرب إلا من ماء الحياة إن شاء الله عز وجل.

ثم أمر الحجاج أن يلفَّ في بارية (وهي الحصير المعمول من القصب) وألقاه حتى لفظ المؤمن الشاب الجسور روحه الطاهرة شهيدا في سبيل الله.، وهو ابن ثماني عشرة سنة.

هذه قصة حطيط الزيات، التي تمتد ثماني عشرة سنة هي سنوات عمره في الحياة، ومع قصرها إلا أنها مليئة بالعظات والعبر لشباب الإسلام، فقيمة الرجال لا تقاس أبدًا بطول العمر ولا بكثرة المال ولا باتساع السلطان، وإنما المقياس الصحيح الصادق يكون بالأعمال الخالدة، وهي في ذات الوقت تثقل في ميزان الله عز وجل.

فرحم الله حطيطًا، ورفع قدره في عليين وأسكنه الفردوس الأعلى.

أضف تعليقك