• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

في الفصل الثّالث من الكتاب تتحدّث الباحثة عن: (الموت والتّصوّرات الأخرويّة)، وتقدّم لهذا الفصل بالحديث عن الزّمن، وهو - في رأيي - مأخوذٌ على نحوٍ ما من تعريف إخوان الصّفا للزّمن في كتابهم المشهور: (رسائل إخوان الصّفا). تقول الباحثة: "ليس الزّمن في الإسلام دائريًّا صِرْفًا، فيه عَوْدٌ على بدء أبديّ، وتداول بين الحياة والموت كما هو الشّأن في بعض الأديان غير السّماويّة، بل إنّه زمنٌ خطّيٌّ يمكن أن نرمز إليه بمحورٍ زمنيٍّ يبتدئ بولادة الإنسان، ويمتدّ إلى ما بعد موته، لأنّ موته دخولٌ في زمنٍ آخر لعلّه أهمّ من الأوّل، بل لعلّ حياته لا تعدو أن تكون نقطةً في هذا المحور كما سنرى، وليس هذا المحور نهايةً طبعًا، وإن كان استقرار الإنسان بأحد فضائي الآخرة - الجنّة أو النّار - هو آخر المطاف بعد سلسلة من الأحداث الأخرويّة".

وتتعرّض الباحثة في هذا الفصل الثّالث لقضيّة عذاب القبر، فهي تُبته، وتؤمن به ابتداءً، ولكنّها تثير مسألة: ما إذا كان العذاب للجسد أم للرّوح أم لكليهما؟ وها هي تقول: "ولكن أريد من حديث أنسٍ أن يكون دليلاً على أنّ العذاب المذكور في القرآن الكريم يلحق بالجسد لا بالرّوح، وهذا هو رأي الأغلبيّة السّنّيّة، وهو الّذي ينتصر له البخاريّ والمُحدِّثون، بخلاف الرّأي القائل بأنّ العذاب يلحق بالرّوح".

وتواصل الباحثة رحلة استنتاجاتها الغريبة، والّتي توحي لِمَنْ يقرؤها بأنّها مستمدّة بذكاء من صحيحًي البخاريّ ومسلم، ولكن تبقى إشارات الاستفهام تدور حولها، واسمعها حين تريد أن تُقنِعنا بأنّ فكرة عذاب القبر لم تكن موجودة في ذهن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وأنّها جاءت متأخّرة حوالي السّنة (10هـ) وأنّه استمدّها من اليهود، وهو كلامٌ يجب الوقوف طويلاً عنده قبل أخذه أو الاقتناع به، وها هي تتفلسف: "فعذاب القبر حسب مجموعةٍ من المرويّات تعود إلى عائشة عقيدةٌ يهوديّةٌ تبنّاها محمّد وإن استغربها في البداية. تقول عائشة: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعندي امرأة من اليهود، وهي تقول: هل شعرتم أنّكم تُفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: إنّما تُفتن يهود. قالت عائشة: فلبثْنا ليالي، ثمّ قال صلّى الله عليه وسلّم: هل شعرتُ أنّه أوحي إليّ أنّكم تُفتنون في القبور؟ قالت عائشة: فسمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستعيذ من عذاب القبر". قلت: ليس ارتياع الرّسول صلّى الله عليه وسلّم دليلاً على إنكاره لعذاب القبر أو لعدم علمه بوجوده، بل - والله أعلم - لعلمه بشدّة هذا العذاب، فتعوّذ منه وارتاع.

وتعتقد الباحثة أنّ الإنسان يموت ثلاث مرّات، فأمّا المرّة الأولى، فهي أمام النّاس في الحياة الدُّنيا حيثُ يوارَى التّراب... والمرّة الثّانية هي بعد أن يُوارَى التّراب تُعاد إليه روحه ليستعدّ لسؤال المَلَكَيْن اللَّذَيْن يسألانه عن ربّه وعن نبيّه وعن كتابه... ثمّ يموت بعدها... والمرّة الثالثة هي حينَ يُحاسَب تعود إليه روحه فيُحاسَب، وبعد الحساب يموت... حتّى تُعاد إليه روحه فيدخل بعدها الجنّة أو النّار... وهذا رأيٌ غريبٌ لم أسمعه من قبلُ. فأمّا أنّه تعود إليه روحه في القبر ليُواجِه سؤال المَلَكَيْن، فهذا نعرفه وقرأناه، ولكنّ الجديد استنتاج الكاتبة أنّه يموت بعدها، وعلى هذا الرّأي بَنَتْ استنتاجًا مفاده: أنّ عذاب القبر ليس مستمرًّا ولا مُتواصِلاً، لأنّ هناك موتًا ثالثًا ينتظره؛ هذا الموت الثّالث طلعَتْ الباحثة به علينا مُستَنتِجةً إيّاه من قوله صلّى الله عليه وسلّم: "ليس أحدٌ يُحاسَب يومَ القيامة إلاّ هَلَك، فقالت عائشة: يا رسول الله: أليس قد قال الله تعالى: (فأمّا مَنْ أوتِيَ كتابه بيمينه فسوف يُحاسَبُ حِسابًا يسيرًا)؟ فقال: إنّما ذلك العَرْض، وليس أحدٌ يُناقَش الحِسابَ يومَ القيامة إلاّ عُذِّب". فهذا الموت يكون يومَ القيامة، لا إثْرَ سؤال المَلَكَيْن؛ فهو الموت الثّالث وليس الثّاني".

وتتساءل الباحثة في بعض مواطن الكِتاب تساؤل العارف المتغابي، حينَ نقول أيُعقَل أن يكون جِهادُ إنسانٍ طوال حياته، يُساوي لحظةً واحدةً يقتل فيها نفسه، وهي هنا تتساءل - بِخُبْثٍ - عن موطن العَدْلِ في ذلك. اسمعها وهي تتفلسَف في قصّة ذلك الصّحابيّ الّذي قاتل بشراسةٍ وشدّة منقطعة النّظير في إحدى المعارك، ثمّ قال عنه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: (هو في النّار)، وحينَ رجعوا إليه، وجدوه قد قتل نفسَه. تقول الباحثة: "وليس هذا المبدأ عقليًّا؛ لأنّه يجعل عمل الإنسان طوالَ سنينَ من حياته مُعادِلاً للحظاته الأخيرة. ولكنّه يدلّ على أيّة حالٍ على تشدّدٍ في النّهي عن قتل النّفس".

والباحثة في موضعٍ آخر من الكتاب ترى أنّ الأدعية الّتي يتلوها المرء في حالات المرض أو مرض الموت هي عبارة عن نشاطٍ سحريّ، تقول: "فمنها ما يتّسم بطابعٍ قوليٍّ كالمُعوِّذات والأدعية لأنّ الأساس فيها هو الكلام، ومنها ما يُشبه الوصفات الطّبّيّة وإنْ كان لا يخلو من نشاطٍ سحريّ".

وحينَ دعا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لسعدٍ بالشّفاء من المرض ثلاث مرّاتٍ بقوله: (اللّهمّ اشفِ سعدًا اللّهمّ اشفِ سعدًا اللّهمّ اشفِ سعدًا ثلاث مرّات) تقول الباحثة إنّ هذا التّكرار الثلاثيّ (الوِتر) نوعٌ من النّشاط السّحريّ. ها هي تتذاكي: "والسّجع والازدواج نوعان من التّكرار كما لا يخفى؛ فالأوّل تكرار للفواصل، والثّاني تكرار لبنية تركيبيّة. والتّكرار من خصائص الخِطاب السّحريّ، ولعلّ المقصود بها إعادة تنظيم العالَم الّذي يقوم على عودة الفصول، ودورة الأفلاك، وتداول اللّيل والنّهار؛ أي التّكرار، أو لعلّ المقصود به تهدئة القوى المُراد إخضاعُها حتّى تُجيبَ الطّلب". "فكأنّ الإسلام لم يتخلّ تمامًا عن إرث الجاهليّة السّحريّ، بل أخذ منه عناصر جعلها مع العناصر السّماويّة التّوحيديّة جنبًا إلى جنب".

وتُثبِت الباحثة أنّ صلاة الجنازة الواردة عن الرّسول صلّى الله عليه سلّم بأربع تكبيرات، وفي بعض الرّوايات بخمس، كانت موجودة في الجاهليّة، وأنّها مِمّا أبقى عليه الإسلام ولم يُغيّرْه أو يُبطلْه. تقول: "وذَكرَ أنّهم كانوا يُصلُّون على موتاهم، وكانت صلاتُهم أن يُحمَلَ الميّت على سرير، ثمّ يقوم وليّه فيَذكُرُ محاسنه كلّها، ويُثني عليه، ثمّ يقول: عليه رحمة الله، ثمّ يُدفَن". وتنقل كلام أحد الباحثين، وهو جواد علي فتقول إنّ: "صلاة الجنازة عرفها العربُ في الجاهليّة وأقرّها الإسلام".

وتتعرّض الكاتبة - في بعض ما تعرّضت له - إلى البكاء على الميّت من قِبَل النّساء، وتبيّن أنّ ذلك عملٌ مسرحيٌّ، كان الواجب يمليه على النّساء، وخاصّة إذا ما شاركَتْ إحداهنّ الأخرى بهذه الوظيفة، واسمعْها قائلةً: "وقد يكون هذا البكاء واجبًا تؤدّيه امرأة في حقّ امرأةٍ أخرى، تُوفِّيَ عنها أحد أقربائها، وسبقَ لها أنْ شارَكَتْ هذه المرأة في البكاء على ميّت، فهو بمثابة الدَّيْن. يُقرَض ثم يُستَرَدّ. وهذا معنى (الإسعاد): "بايعْنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ علينا ألاّ يُشرِكْنَ بالله شيئًا، ونهانا عن النِّياحة، فقبضت امرأةٌ يدها فقالت: أسعدَتْني فلانةٌ أريد أن أجزِيَها. فما قال لها النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئًا. فانطلقتْ ورجَعَتْ فبايَعها".

والباحثة في نهاية كتابها، تَخلُصُ إلى مجموعةٍ من النّتائج، تُفرِدُ لها ما يقرب من (40) صفحةً، غير أنّه يُمكن تلخيص بعض ما جاء في هذه النّتائج، من خلال الفقرات المقتبَسَة الآتية: "فطقوس الموت كما صوّرها الصّحيحان تحمل بصفةٍ عامّةٍ طابع البداوة العربيّة ذات المؤسَّسات البسيطة، ولكنّها تعكس أيضًا موقف الرّسول صلّى الله عليه وسلّم منها. فقد حدّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم من دور الطّقوس، ومن مجال تطبيقها، فجعل حِداد المرأة على غير زوجها لا يزيد على ثلاثة أيّام، وحِدادها على زوجها أربعة أشهرٍ وعشرًا بعد أن كان يدوم حولاً كاملاً. وقد غلب النّهي على تشريعه لعلاقة الأحياء بالميّت؛ فنهى عن البكاء، ونهى عن بناء القبور، ونهى عن الصّلاة إليها... إلخ، وكلّ ذلك خوفًا من أن ترتدّ أمّته عن التّوحيد إلى الوثنيّة، كبني إسرائيل الّذين عبدوا عِجْلاً من دون الله، أو الكثير من الأمم البائدة الّتي ذكرها القرآن، ووصف العذاب الّذي سلّطه الله عليها".

وتقول في موضعٍ آخر من هذه النّتائج: "فحياة المسلم كما يُصوّرها الصّحيحان، أو كما يريدها الإسلام تمرّ على وتيرةٍ واحدةٍ، ولا تَحَوُّلَ فيها سوى الموت. وهي مُتّجهةٌ نحو الآخرة أكثر من اتّجاهها نحو أيّ شيءٍ آخر. وقد بيّنّا في الفصل الثّالث من القسم الأوّل مدى حضور التّصوّرات الأخرويّة في الأذهان، ومدى ضآلة الموت نفسه إذا ما قُورِنَ بالأحداث الّتي تعقبه من عذابٍ في القبر، وبعثٍ، وموتٍ ثان]، وموتٍ ثالثٍ، وحياةٍ أخرى. وقد رسمْنا مِحورًا لحياة الفرد كما يُصوّرها الصّحيحان ولاحظْنا أنّ الحياة الدّنيا لا تشغل إلاّ حيِّزًا صغيرًا منه".

وبعد هذا التّطواف في الكتاب، يُمكننا القول: إنّ الباحثة لم تأخذ بالمُسَلَّمات، ولم تترك الأمور على ما فسّره الأقدمون من كِبار المُفسّرين، وعلماء الحديث، وحاولتْ أن تخرج بنتائج خاصّة بما وَعَتْه مِمّا قرأت في الصّحيحَيْن حول الموت، وأنا أقول: إنّها أصابت وأخطأت، واقتربتْ وابتعدَتْ، شأنَ أيّ مجتهد وباحث. ولولا أنّها حرّكت في عقولنا شيئًا ما أخذنا بشيءٍ مِمّا قالت، غير أنّها استطاعت أنْ تُعيد صياغة بعض الأفكار الّتي توارَثْناها، وأوقفَتْنا أمام بعض الحقائق بطريقة المفاجأة... ولا أدعو الله إلا أن يغفر لنا ولها، وأن يُبصّرنا، فإنّما ضلّ كثيرون بما زيّن لهم الشّيطان سوء أعمالهم فرأوها حَسَنة.

 

 

أضف تعليقك