بقلم: جمال الجمل
(1)
لا تصدق شيئاً أو أحداً، فالنسبية ابتلعت الحقيقة، كل شيء تحول إلى مسخرة، لكن أم المساخر أن "هذه الأيام السوداء التى نعيشها ستصبح فى المستقبل القريب (الأكثر سواداً طبعاً) من أيام الماضي الجميلة".. الاقتباس الأخير الموجع ليس لى، لكنه لصاحب "صورة دوريان جراي": الملعون الممنون أوسكار وايلد، الذي تداخلت فى حياته وإبداعاته المأساة مع الملهاة، الجدية مع السخرية، الرصانة مع المجون، لكن المقولة في ذاتها صارت أشبه بدستور مصري يعيد إنتاج الماضي في صورة متجملة كاذبة، بينما يفصلنا بخبث عن الحاضر وعن المستقبل.
(2)
"هل هذا عيشنا؟!".. هكذا تساءل ونيس في فيلم "المومياء"، كأنه يلعن الحاضر محتجاً على عمه الذي يتاجر في مقابر الأجداد: إذا كان الموت هو بضاعتنا، فلماذا نحلم إذن بالغد؟ لماذا نهرول بدأب وإصرار نحو المستقبل، وهو دائما يأتينا في صورة أسوأ مما كان الأمس؟!
(3)
تذكرت سؤال ونيس الاستنكاري، وأنا أنتبه لدخول محمد حسني مبارك بكل ثقة واسترخاء إلى العقد العاشر من عمره، ولما لاحظ صديقي انشغالي بعيد ميلاد مبارك الذي يحل بعد ساعات، قال لي ممازحا: كده عرفنا سر العواصف والسيول التي أغرقت "شارع التسعين" في مدينة التجمع، إنها علامة زلزالية أسطورية فاتت على نوستر آداموس الذي لم يتوقع أن يكسر مبارك حاجز التسعين، برغم أنه "لم يكن ينتوي".
(4)
كانت الإسقاطات واضحة، فخطاب مبارك الذي قال فيه: "لم أكن أنتوي الترشح... إلخ"، كان حلقة في سلسلة مقولات هزت مصر، منها:
إن حسني مبارك الذي يتحدث إليكم اليوم، يعتز بما قضاه من سنين طويلة في خدمة مصر وشعبها، إن هذا الوطن العزيز هو وطني، مثلما هو وطن كل مصري ومصرية، فيه عشت، وحاربت من أجله، ودافعت عن أرضه وسيادته ومصالحه، وعلى أرضه اموت، وسيحكم التاريخ علي وعلى غيري بما لنا أو علينا.
(5)
طرأت على ذهني قصة عصابة من المسجلين خطر، كان زعيمها متخصصاً في السرقة بالإكراه، وانضم إلى العصابة بعض المجرمين المحدثين المصابين بلوثة العنف والتعامل بالقوة الغاشمة، وحدث ذات ليلة أثناء توقيف عدد من المارة أن اعترضوا على السرقة وأبدوا استعدادا للمقاومة وعدم تسليم حقوقهم، فألقى عليهم زعيم العصابة نصائحه للاستسلام طواعية، ونبههم إلى أن الأمور قد تتطور إلى ما لا تحمد عقباه، وحينها ستدركون قيمة نصائحي. واختتم موعظته بالقول الماثور: وعما قريب سيحكم التاريخ علي وعلى غيري بما لنا أو علينا. وظهر بعد ذلك القتلة وسلبوا ممتلكات الناس بعنف وسادية، حتى أن بعض المسروقين نظروا إلى زعيم العصابة في الصف الخلفي وهتفوا باكين: آسفين يا ريس.
فصار الهتاف علامة على انكسار المستقبل، وعودة الماضي في صورة بشعة تشبه مسوخ الزومبي الخارجين من القبور لنشر الموت على حساب الحياة.
(6)
في ذكرى ميلاد مبارك، لا زلت على عنادي القديم مؤكداً أن زعيم عصابة الخطرين ليس بريئا من أولاده القتلة، فالجيل القديم من الفاسدين هو الأب الراعي للسفاحين الجدد الذين يحكمون اليوم بلا أية مبادئ أو حسابات، لذلك فإن التاريخ الذي تحدث عنه مبارك، هو مجرد خدعة لا تنطلي على الأذكياء المدافعين عن حقوقهم وعن المستقبل؛ في مواجهة عصابة الظلام وتثبيت الماضي وتكريس الأمر المواقع. التاريخ بالنسبة لي هو تدفق الزمن نحو المستقبل، مهما كانت العثرات والمخاوف على الطريق؛ لأننى بدأت حياتي مسحوراً بكلمة "التقدم"، ومجنداً فى جيش المستقبل، وحالماً بما لم يأت. فكل المصاعب التي نعاني منها تهون طالما نمضي في طريق الأمل المنشود، نحلم بالجديد الآتى..
(7)
صحيح أن الشعار الواقعي المرفوع الآن بين الناس هو: تمتعوا بالسيئ فإن الأسوأ قادم، وصحيح أننا لم نعد في زمن قصيدة ناظم حكمت التي تؤكد أن "أجمل الأشياء تلك التي لم نعرفها بعد".. لأن هذه الـ"بعد" صارت كابوسية، حتى أنني أصبحت أخاف من رنة التليفون أو جرس الباب فى الليل، أصبحت أكره المفاجآت، وأخشى الغد، وأتشاءم أحيانا من نتائج أي فعل، لأن أفق الانتظار صار مسدودا بالعمالة والجهالة والسماء صارت وكراً من الخطر تسيطر عليه الجوارح القاتلة. ولكم أن تتخيلوا أنني كنت أنتقد - مثلاً - إبراهيم نافع وسمير رجب، وحسن الإمام، وتوفيق عبد الحي، والريان وإسماعيل الشاعر، وأكتب فيهم الهجائيات، ثم يريد "التاريخ المباركي" إقناعي بأن هؤلاء الأسافل كانوا خير سلف بالنسبة للخلف.. سياسات وأحداث رأيناها عاراً وعواراً، صرنا فجأة نترحم عليها، لقد انحدرنا حتى طمع فينا "الرويبضة"، وتكاثرت علينا أجيال من "اللكعين" المنصرفين عن همِّ البلاد والعباد إلى التغني بجمهورية "أد الدنيا".. صار مبارك فجأة مقاوم عنيد ضد التفريط في سيناء، مقارنة مع ربيبه في العصابة الذي يجاهر بالتفريط، وصار مبارك حاميا للنيل، ومهددا لأثيوبيا بتدمير سد الألفية إذا تجرأت على إقامته، بينما ربيبه المتآمر يفسح المجال لتكريس السد كأمر واقع لا بديل عن الاعتراف به بلا قيد أو شرط. والأمثلة كثيرة على تشوه التاريخ وارتباك المقاييس والمفاهيم التي تربطنا بالماضي الجميل، وتخيفنا من المستقبل المحفوف بالمخاطر، رغم أن الماضي لم يكن أبداً جميلاً، وأن المستقبل مجرد احتمال مرن نصنعه نحن بأيدينا في معركة تقرير مصير، ولا يجب أن نسمح لمبارك ولا زبانيته المحدثين بالانتصار علينا في هذه المعركة.
أضف تعليقك