• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانيتين

الأستاذ جمعة أمين

إن العبرة في حركة التاريخ أو فينمو الحضارة وازدهارها ليست بوجود الأفراد المخلصين مهما بلغ صلاحهم وتقواهم وإداركهم لحقائق الأمور فحسب ولكن العبرة والأهم أن تكون هناك حركة جماعية وصلاح يشبه أن يكون تيارا قويا هادرا غالبا لا ضعيفا ولا مغلوبا مؤثرا في غيره وهذا كله يحتاج إلى وقت وجهد مضن للتعريف بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن حتى تنتشر الفكرة الإسلامية بالإقناع والاقتناع .

 

ذلك لأنه إذا لم ينجح الفرد المخلص في تحويل دعوته إلى تيار عام يحمله المخلصون ويعتصمون بحبل الله ويكونون على قلب رجل واحد كان من الخاسرين (فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) فما كانت عناية الإسلام بتربية الفرد إلا ليكون لبنة في جماعة تتحمل مشاق الطريق وعبء الدعوة من حيث نشرها والتضحية من أجلها والجهاد في سبيل نصرتها وإقامة الدولة التي دعي الإسلام إلى تشييدها وتدعيم أركانها .

 

لذلك جعل المولى سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية كلها أمة دعوة فبينما بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة وإلى البشرية كافة أتبعث هذه الأمة المسلمة إلى سائر الناس من أجل ذلك قالها ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس : ((إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده العباد إلى عبادة الله ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة )).

 

ومن الإخلاص للدعوة أن يبذل الوسع والجهد في سبيل نشرها لا ينتظر من وراء هذا الجهد والتعب أن يحقق عن طريقها رغبة أو مصلحة أو فائدة شخصية يسعى إليها من خلال دعوته أو يتخذ منه سببا للجاه أو الشرف أو الرياسة أو ينفع بها قريبا في نسب أو بعيداً في حسب وهذا ما فعله الإمام البنا رحمه الله فالقارئ لسيرته الذاتية يرى كم من الجهد بذل ومن الوقت أنفق حتى جاد بنفسه في سبيل دعوته وكم من المراكز عرضت عليه فأبى وكم من الأموال قدمت له فتعفف وواصل الليل بالنهار يجول الفيافي والقفار ويقول للناس : لا نريد منكم جزاء ولا شكورا .

 

لأن كل نبي أو رسول من الرسل الكرام أكد لقومه أنه لا يبتغى من وراء رسالته جزاء ولا شكورا ولا فائدة مادية ولا معنوية على أدائها وإن كان هناك جزاء أو فائدة فهي تلك التي تعود من وراء هداية المهتدين بها ومن أجل ذلك فهو يضحي بوقته وجهده وكل ما يملك في سبيل تحقيق هذه الفائدة النبيلة .

 

وهذا مبدأ عام لتخليص الدعوة إلى القيم الإنسانية من أي شائبة تشوبها إذ أن الدعوة إلى الله تبحث عمن يحملها ولا تحمله ويعطيها كل ما يملك لا ليأخذ منه بسعيه لنشرها يبتغى بذلك الشهرة والصيت فإذا لم تحقق له ذلك نكص على عقبيه وبخل بكل شئ بل وتنكر للطريق لأنه وجد مصلحته في غيره ، يقول مؤمن ((سورة يس)) الذي جاء من أقصى المدينة يسعى : { قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون } يس 20- 21] بينما سحرة فرعون كانوا يقولون : {أين لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين } الشعراء 41-42 ] وهم أنفسهم الذين حين مس الحق قلوبهم حولهم وقالوا { قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى } طه 72- 73 ] لأن الإخلاص إذا تمكن من القلوب لا يحفل المرء بما يفقده من مال أو جاه أو سلطان ولا بما ينفقه من وقت وجهد بل لا يبالي بما يقع عليه من عذاب لأن القلب الذي يرجو الآخرة لا يهمه من أمر هذه الدنيا قليل ولا كثير فتتضاءل في عينه حتى تصبح نفسه التي بين جنبيه رخيصه في سبيل نشر هذه الدعوة إلى درجة أنه يستطيل الوقت الذي يأكل فيه تمرات ويقول : أبيني بين الجنة تلك التمرات الله إنها لحياة طويلة .

 

إن اصطياد الدنيا بالدين مأساة وقد نبه القرآن الكريم أن نفرا من الذين يلبسون شارات الإيمان ويصدون الناس عنه وممن يتملكون عن الله يأكلون باسمه أموال الناس سحتا ويتقاضون عن أوقاتهم أجرا ويحققون مغنما وذلك في قوله تعالى : إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } التوبة 34] إن المسلم المخلص لدعوته لا يقدم على هذه الدعوة نفسا أو أهلا أو مالا أو تجارة { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين } التوبة 24 ].

 

إن القرآن يضع في الآية الكريمة الوشائج والمطامع واللذائذ كلها في كفة ويضع العقيدة ومقتضياتها في الكفة الأخرى الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة وشيجة الدم والنسب والقرابة والزواج والأموال والتجارة مطمع الفطرة ورغبتها والمساكن المريحة متاع الحياة وزينتها وفي الكفة الأخرى : حب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله الجهاد بكل مقتضياته وبكلل مشتقاته الجهاد وما يتبع من تعب ونصب وما يتبعه من تضييق وحرمان وما يتبعه من جراح واستشهاد مجردا من الصيت والظهور والمباهاة والفخر والخيلاء .

 

وعلى المسلم أن يختار ليختبر إخلاصه لدعوته وصدقه من ربه هل يضحي بالفانية بكل ما فيها من زينة الحياة الدنيا في سبيل دعوة تقوده إن فعل ذلك إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين يصحبه فيها الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا أو الأخرى التي يخسر فيها الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين لذلك كانت التضحية بالوقت والجهد أهون التضحيات بالنسبة لصاحب الدعوة فإن بخل على الله بوقته وجهده سيكون بغيرهم أبخل .

 

إن صاحب الدعوة كما قلنا الذي يحمل فكرة يؤمن بها لابد له من أن يبذل الوقت والجهد بل المال والنفس في نشرها والتضحية في سبيل أن تسود وتنتشر وهذا سبيل الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين .

 

فلقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى الحق في تجرد عن الدنيا وزينتها وفي جلد وتحمل وصبر على المكاره والشدائد المادية والمعنوية لنجاحها ولشدة قضاء كل وقته لها وحرصه الشديد على أن تصل للناس قال له ربه : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } الكهف 6 إن صاحب الدعوة يعلم أن عمره كله لله فما خلقه الله إلا لعبادته عمارة للكون ، وأمناً للناس ، ونشراً للسلام والإسلام ، ولا يتحقق ذلك بفضول الأوقات { قل إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } الأنعام 162-163 لذا وجدنا الصحابة رضوان الله عليهم بذلوا أعمارهم وأوقاتهم في سبيل الله ، ولقد علمهم القرآن ذلك حين قص عليهم قصص الرسل الذين قضوا حياتهم يدعون إلى الله على بصيرة ليلاً ونهاراً سراً وجهراً وهم يتحملون كل أنواع الإيذاء .

 

إنهم يحملون الأمر الثقيل الهائل العظيم أمر رقاب الناس ، أمر حياتهم ومماتهم ، أمر سعادتهم وشقائهم ، أمر ثوابهم وعقابهم ، أمر هذه البشرية التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة ، وإما أن لا تبلغ إليها فتكون لها حجة إلى ربها ، ويكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ ، فأما رسل الله عليهم الصلاة و السلام فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل ، وهم لم يبلغوها باللسان فحسب بل ضحوا بكل ما يملكون من جهد ووقت ومال ونفس في سبيل نشرها .

 

وبقى هذا الواجب الثقيل على من بعدهم ، على المؤمنين بالرسالة و الطريق ، فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجئ بعد الرسل ، وبعد رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وتبليغ هذه الأجيال منوط بعده بأتباعه ، ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة تبعة إقامة حجة الله على الناس وتبعة استنقاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا إلا بالتبليغ والأداء على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدى ضارباً المثل و القدوة في التضحية .

 

لذلك قص علينا القرآن قصص رجال آمنوا فتحركوا وضحوا وبذلوا الجهد و الوقت في سبيل نشر دعوهم وحماية صاحبها فهذا رجل جاء من أقصا المدينة يسعى قال { يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين } القصص 2. .

 

فكم من الجهد بذل في زمان لم تكن وسائل المواصلات والاتصالات ميسرة وسهلة كما في أيامنا هذه ، وكم من الثمن دفع تضحية لإنقاذ حامل الحق الذي أراد أن يبلغه .

 

إنه الإيمان بالفكرة و الدعوة و الطريق وهو إيمان كله أمل أن المستقبل لهذا الدين ، إيمان وأمل يدفع الرجال إلى العمل الجاد للوصول إلى النصر الأكيد ، ولن يكون ذلك كذلك إذا بخلنا بأوقاتنا وجهدنا فضلاً عن أموالنا وأنفسنا ، بل لابد أن نرتفع إلى مستوى هذا الدين فلا نعطيه فضل أوقاتنا وفضل جهودنا وفضل أموالنا { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ... } التوبة 111 وهذا يتطلب أن نرتفع إلى مستوى هذا الدين في حقيقة إيماننا ، ونرتفع إلى مستواه في حقيقة عبادتنا ونرتفع إلى مستواه في معاملاتنا ونرتفع إلى مستواه في فهمنا ووعينا .

 

إن النصر يحتاج إلى جهاد طويل - أقول جهاد ولا أقول قتال - لأن جسامة التحديات التي تواجه الإسلام و المسلمين في هذه الحقبة كثيرة ،" وكلكم على ثغر من ثغور الإسلام فالله الله أن يؤتى من قبله " فعدم البخل بوقتك وجهدك وكل ما تملك لهذه الدعوة جهاد في سبيل الله و الصابر على ذلك حتى يتحقق نصر الله الموعود من المجاهدين الصادقين .

 

لذلك فإن الدعاة اليوم هم طلائع النور في أمة طال عليها الليل ، وبوادر اليقظة في أمة تأخر عنها النور ، وأمل العالم في عصر أجدبت فيه الدنيا من رسل الرحمة و اليقين ، وامتلأت بزبانية الأثرة والإلحاد ، فهل يجوز لمسلم صادق الإيمان أمام هذا كله أن يبخل بوقته أو جهده لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها أو ولد يرجو ل مستقبلاً يفخر به لا ليورثه الطريق ، ويكون له دعوة صالحة بعد فراقه لهذه الدنيا الفانية ؟ .

أضف تعليقك