بقلم: أسماء عابد
القراءة عن التّاريخ ليست أمرا سهلا يستطيعه أيّ كان، فإن كان القارئ يريد من التعرّف على التّاريخ أن يفهم الحقائق ويخرج منها بالإفادة، فعليه ألّا يقرأ إلّا إن كان له رصيد قويّ من المعلومات الموثّقة كي لا يتوه في دوّامة الأكاذيب. "التّاريخ مزيّف" هي جملة اعتدنا سماعها كثيرا، فالمنتصر هو من يكتب التّاريخ، ولن يكتب إلّا ما يريده هو وما يصبّ في خانة مصلحته ومصلحة أتباعه من خلفه.
وحتّى حينما لا يكون التّاريخ مزيّفا، فإنّ أيّ عبارة شخصية يضعها كاتب ما كفيلة بأن تجعل القارئ يميل إلى كفّة على حساب أخرى ويكوّن نظرة قد لا تكون صحيحة سوى أنّ ذلك الكاتب يفضّلها على غيرها. ولعلّ القراءة عن التّاريخ الإسلامي بالنّسبة لنا كمسلمين له أهمّية كبرى لما فيه من عبر وفوائد علينا الاستفادة منها في أزماتنا الحالية، وهذا التّاريخ مشوّه أكثر من غيره لما له من أثر يدركه أعداؤنا. والتّشويه الّذي يطال التّاريخ ليس خارجيا فحسب، بل داخليا أيضا من مردّدي كلام المستشرقين سواء عن جهل أو عن قصد.
في مسيرتي لقراءة التّاريخ الإسلامي والّتي لم تكتمل بعد، تصفّحتُ كتبا عديدة وأنا أبحث عن تاريخ خال من التّشويه ومن الآراء الشّخصية. أردتُ تاريخا حقيقيا علميا يعطينا الحقائق ثمّ يترك حقّ الحكم عليها للقارئ، ولم يكن إيجاد تاريخ كهذا بالأمر السّهل. خلال تصفّحي للكتب وجدتُ بضعة آراء مشتركة كانت تجعلني أنصرف عن قراءة الكتاب، وبعضها هي كالتّالي: الانتقاص من مكانة عثمان بن عفّان، ومحاولة تبرير أحقّية طرف على طرف آخر في معركة الصفّين، والانتقاص من مكانة الدّولة الأموية بداية من معاوية بن أبي سفيان.
حينما وقعت عيناي على كتب الدّكتور علي الصّلابي كان الفرق واضحا بين كتبه وكتب غيره. فعدا عن التّسلسل المميّز للأحداث والّذي جعل كتابه عن السّيرة النّبوية من أحبّ الكتب إليّ، كان الصّلابي بعيدا كلّ البعد عن الحكم على أحد أو الانتقاص من أحد. فقد بيّنت لنا كتبه كيف كان السّلف حريصا على هذا الدّين ولو أنّهم اختلفوا، وبيّن لنا كيف أنّ الدّولة الأموية لم تكن الدّولة الّتي أنهت الخلافة وأضاعت الأمّة، بل كانت نتيجة حتمية لسريان الأحداث الّذي بدأ مبكّرا. والأمر الّذي راقني هو أنّ الصّلابي لم يضيّع كتبه ليخبرنا كيف أنّ معاوية سرق الخلافة ولم يبحث عن الأسباب ليدافع عنه، إنّما كان جلّ اهتمامه أن ينقل لنا ما فعله هو ومن بعده لأمّة الإسلام وكيف ازدهرت الدّولة في عهده، وما حدث من توليته لابنه بعده قد يكون خطأ وقد يكون حكمة لا نستطيع نحن إدراكها.
ما يجعل كتب الصّلابي راسخة في الذّاكرة هو أنّ كلّ فصل أحداث فيها ينتهي بفوائد وعبر يذكرها الكاتب في شكل نقاط تلخّص كلّ ما مرّ في ذلك الفصل. ولا يكتفي الصّلابي بذكر العبر منها بل ويربطها بعالمنا المعاصر ليذكّرنا في كلّ لحظة أنّ تاريخنا قادر على حلّ أزماتنا إن استطعنا الاستفادة منه كما ينبغي، وإذا ما درسناه بشكل صحيح بعيدا عن التّشويه والتّزييف. تلك الفوائد والعبر لها أهمّيتها أيضا ان احتاج القارئ لتذكّر تسلسل الأحداث في أيّ فصل، فقد وجدتُها مفيدة كلّما أردتُ أن أنعش ذاكرتي بشأن حدث ما.
أستطيع القول أنّ قراءة كتب الصّلابي قد أكسبتني نوعا من الذّكاء التّاريخي. فقد صرتُ أميّز بين الصّحيح والمزيّف من خلال تحذيراته المتكرّرة من التّشويه الّذي يطال كتبا كثيرة مشهورة بما يكفي لتؤثّر على القرّاء، كما صرتُ قادرة على الانتباه لأيّ جمل تقع في خانة الرّأي الخاصّ للمؤلّف. لكن الأهمّ هو أنّني فهمتُ أنّ المثالية مستحيلة، لا في زمننا هذا ولا في زمن السّلف. صحيح أنّ عهد الخلفاء الرّاشدين كان عهدا لم يتكرّر، لكن لا يعني ذلك أنّ ما بعده هي عصور فاشلة، كما لا يعني أنّه كانت يجب أن تكون مثالية.
لا بأس أن تجمع دولة الإسلام بين الصّواب والخطأ طالما لا يزال هدفها منوطا بنشر رسالة الإسلام، ولم تكن الدّول الّتي ينتقدها الكثيرون ببعيدة عن هذا الهدف. فالدّولة الأموية والدّول الّذي ظهرت بعدها كالسّلاجقة والمرابطين وغيرها هي دول قامت على نفس الهدف وكانت عادلة لحدّ كبير، ولذلك نجحت في النّصر على أعدائها واستطاعت فتح البلاد ونشر الإسلام. ولعلّ الجمود الّذي يصيب عالمنا الإسلامي هو الفكرة المستحيلة بإيجاد دولة مثالية تشبه دولة الخلفاء الرّاشدين، وهو أمر يستحيل حدوثه بين ليلة وضحاها بل يجب أن نسير نحوه خطوة خطوة. وطالما لم نفهم هذه الحاجة إلى التّسلسل فسنظلّ نرفض أيّ محاولة للسّير نحو الطّريق الصّواب.
في النّهاية عليّ أن أقول أنّني أكتب عن مؤلّف لم أعرف عنه سوى اسمه حينما بدأتُ القراءة له، ولا يدفعني لكتابة هذا المقال سوى أن أستطيع لفت انتباه ولو بضعة أشخاص يهمّهم قراءة التّاريخ بشكل صحيح، لعلّنا نستطيع أن نلعب دورا مهمّا في الأحداث القادمة. وربّما أكثر ما أتمنّاه من هذا المؤلّف هو أن أرى كتابا له عن الأحداث الأخيرة كثورات الرّبيع العربي بشكل خاصّ، أعتقد أنّ كتابة كتاب على نفس النّهج الحيادي الّذي اتّخذه الصّلابي في كتبه التّاريخية له أهمّية وحاجة ملحّة للشّباب التّائه بين الآراء المختلفة، كما أنّه ضرورة للأجيال القادمة كي لا تكرّر نفس الأخطاء.
أضف تعليقك