• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: ساري عرابي

ما يزال الفلسطينيون في قطاع غزّة يخوضون الملاحم المتتالية يوما خلف آخر، وبوسائل متنوعة. وفي الوقت الذي يكاد يطبق فيه العالم على حصارهم، وبينما يتلمسون بدمائهم فكّ هذا الحصار، فإنّهم فوق ذلك ستروا عورتنا نحن الفلسطينيين، ومن خلفنا عورة هذه الأمّة. فقط فلنتخيل يوم السفارة المشؤوم لو مرّ بلا شيء، كما كان يمنّي الصهاينة وحلفاؤهم أنفسهم.

إنّها غزّة، متواضعة الجغرافيا، المحاصرة، المكشوفة، بمليونين من البشر أوّ أقل، لم تزل منتصبة، صامدة.. حتى وهي تطبّب جراحها تسترنا وتظلّل علينا، وهي بهذه القدرات التي تقارب العدم، فإنّها تواجه حرفيّا عالما ظالما غارقا في الطغيان والإجرام، وهي تفعل ذلك وحدها، بلا نصير ولا معين.

إن كانت بقعة صغيرة من الجغرافيا تمكنت من الصمود منذ أحد عشر عاما، لا في وجه "إسرائيل" فحسب، بل في وجه العالم، فهل مشكلة هذه البقعة صعبة على أمّة ممتدة بالجغرافيا وتموج بالبشر والثروات؟ بل لو سألنا عن فلسطين كلّها، لا عن غزّة وحدها، كيف أمكن لدولة مصطنعة، غريبة، شاذة، بلا جذور، ولا أفق، ولا عمق، أن تستمر سبعين عاما في قلب أمتنا؟!

فلنوسّع السؤال، وليشمل هموم منطقتنا كلّها، فهل كان ينبغي على السوريين أن يدخلوا في هذه المذبحة المفتوحة منذ سبع سنوات؟! لماذا آلت الثورة السورية إلى دمار وخراب وتشريد، ثم تمكين للأغراب، وشذاذ الآفاق، ثم إباحة الأرض السورية لكل غاز ومعتد وطماع أثيم؟! هل كانت هذه الأمّة الضخمة بكل شيء؟ هل كانت عاجزة عن معالجة الجرح السوري من أوّله؟!

هذا العراق، حنين كل عربي، مخزن تراث وأمجاد كل عربي، جرحنا الكبير من عقود، إلى أي شيء صار؟! إلى خرابة تُفرغ فيها قذائف الأمريكان؟ إلى مدن مدكوكة منهوبة؟ إلى سعار طائفي لا يكاد يهدأ حتى يشتعل؟ إلى أرض مباحة بلا حمى لكل طماع غريب؟ هل كانت هذه الأمّة بكل ما فيها عاجزة عن تسييج مجدها وذاكرتها وفخرها ومعدنها؟!

 

ما حاجتنا إلى هذه الدول، طالما أنّها لا تكتفي بعدم قيامها بواجباتها تجاه الأمة وجراحها المفتوحة، وإنما تقوم بدور عكسي


ليست المشكلة في كونها أمّتنا بالتأكيد، وإنما في وحداتها السياسية التي تزداد ضعة وهوانا وخيانة. ما حاجتنا إلى هذه الدول، طالما أنّها لا تكتفي بعدم قيامها بواجباتها تجاه الأمة وجراحها المفتوحة، وإنما تقوم بدور عكسي؟ فلكي يحافظ ساستها الذين يزدادون تفاهة كل يوم عن سابقه، على حكمهم، أو لكي يصلوا إلى الحكم، لديهم استعداد لتدمير كل شيء في أمتنا، وسحقه تحت قدمي "إسرائيل"، وحماة "إسرائيل" الكبار!

فلنتخيل أن داعية مشهورا لم يعد يملك أن يحتفظ بتغريدة على موقع تويتر يدعو الله فيها أن ينصر أهل غزة على عدوهم، فيقوم بحذفها بعد ثلاث سنوات! إلى هذا الحد؟! نعم إلى هذا الحد! إلى الحد الذي صارت فيه فلسطين لا مسألة مختلف عليها، بل مسألة يراد حسمها بتصفيتها مرّة واحدة وإلى الأبد قربانا للتحالف الآثم بين سفهاء الأحلام الجدد من الحكام والساسة العرب وبين ساسة "إسرائيل"!

 

لنتخيل أن داعية مشهورا لم يعد يملك أن يحتفظ بتغريدة على موقع تويتر يدعو الله فيها أن ينصر أهل غزة على عدوهم، فيقوم بحذفها بعد ثلاث سنوات!


من الذي موّل سحق آلاف البشر العزّل في شوارع مصر، وموّل طاغية تافها تحوم شكوك عميقة حول تعامله مع "إسرائيل"؟! من الذي ضيّع العراق، ومن الذي أباحه بصفاقته وضعفه وهزاله ورعونته لإيران؟! ومن الذي ضيّع سوريا ثم أخذ يشكو لأمريكا التغول الإيراني فيها؟! من الذي ضيّع سوريا ثم أراد استخدامها ذريعة لتضييع فلسطين وإلى الأبد؟ وهل نسأل عن اليمن؟ أم عن ليبيا؟!

إذا كانت هذه الدول هزيلة إلى هذا الحد، وكان حكّامها على هذا النحو الموصوف، وكانت دولهم هشّة، تذروها رياح جغرافيا الأقوياء، وكان حكمهم عبئا على الأمّة، حتى أن أحسنهم، لديه استعداد عميق للتآمر على شرفاء الأمة، أو خذلانهم، ما ظهرت مخاوفه على حكمه، أو ابتزّ في حكمه، أو احتاج للكبار الأقوياء لحمايته من إخوان عروبته، ما دام الأمر كذلك ما حاجتنا إلى هذه الدول؟!

يعيدنا هذا السؤال إلى الثورات العربية: هل الأثمان التي دفعناها كانت تستحق؟!

لقد قيل كلام كثير بأثر رجعي يتبهرج بحكمة زائفة، يقول إن الثورات لم تجلب إلا الدمار والفوضى والخراب. وهذا الكلام نصف حقيقة، لكن الحقيقة الكاملة تتضح لو افترضنا أن هذه الأثمان كلها دفعت في مواجهة عدو خارجي، أو غزو أجنبي. إن كل ثمن حينها يهون في سبيل التحرر من الغزو الأجنبي، فلماذا لا تهون هذه الأثمان التي دفعناها في الثورات العربية للتخلص من هذه الدول الهشة وأنظمتها المتآمرة، ما دامت السبب فيما نحن فيه؟!

 

إن ما يجري يزيدنا ثقة بمشروعية وضرورة وصوابية تلك الثورات، لكنه يدفعنا لمزيد وعي بجوهر المشكلة العميق


لا ينبغي أن نأسى على ما دفعناه، لكن علينا أن ندرك عمق المشكلة، في هذه الدول وأنظمتها. هذه الدول وأنظمتها كانت ولم تزل حاجة لكل عدوّ يريد أن يجعلنا خارج التاريخ أبدا، ويريد لجراحنا أن تظل نازفة، ليظل مهيمنا متحكما. فكما أن العالم كلّه يدفّع أهل غزّة ثمن التمرد على العدو الإسرائيلي، فإنّ العالم كلّه يدفّع العرب ثمن التمرد على أنظمة يحتاجها ويستخدمها ضدنا.

إن ما يجري يزيدنا ثقة بمشروعية وضرورة وصوابية تلك الثورات، لكنه يدفعنا لمزيد وعي بجوهر المشكلة العميق.

أضف تعليقك