• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: شريف أيمن

قام رئيس دولة نامية باستحداث أداة جديدة في العلاقات الدولية، هي "القَسَم"، فوقف في مؤتمر صحفي مع رئيس وزراء دولة أفقر من دولته، ليطالبه بترديد قَسَم عدم الإضرار بمصالح دولته من المياه. وعَلَتْ ابتسامتُه "المميزة" وجهَه أثناء ترديد الآخر للقسم، وأصبحت هذه الواقعة "المانشيت" الرئيسي لعدد من صحف هذه الدولة النامية؛ باعتبار رئيسها حقق نصرا، وانتزع وعدا يحفظ للمطحونين حقوقهم في المياه، وهم على أبواب أزمة تنذر بفقر مائي.

لفهم هذا السلوك نحتاج للتذكير بواقعتين: إحداهما عندما قال ذلك الرئيس من قبل إنه "احتاج لخمسين سنة حتى يفهم معنى الدولة"، وثانيهما عندما قال إن "رؤساء العالم وأجهزة الاستخبارات وكبار الفلاسفة يسمعون منه". ويبدو أن الخمسين سنة التي استغرقها لفهم معنى الدولة قد آتت أُكُلها ولكن بشكل عكسي، فأصيب الشعب بالفقر والتبعية السياسية والتفكك الاجتماعي والتمايز الطبقي الفج، أيضا يبدو أنه ما زال في غيّه الذي صوّر له أن الكل يستمع إليه، فاستحدث أداة دبلوماسية جديدة في العلاقات الدولية، وهي أداة "القَسَم"، ليخلّد اسمه في سجل المخترعين غير النابهين.

هذا التردي الذي أصاب هذه الدولة النامية برئيسها ذلك، يستدعي إعادة التذكير بأساسيات أعمال السياسة الخارجية التي تبين شكل العلاقات الدولية، التي تُصاغ (وفقا للمنظّرين السياسيين) على أساس علاقة "الصديق والعدو". فالدول في العلاقات السياسية إما أصدقاء وإما أعداء، وتتحدد الصداقة أو العداوة بميزان "المصلحة القومية".

يعتبر مفهوم المصلحة القومية أحد أهم مفاتيح صنع السياسة الخارجية، ويمكن تبسيط هذا المفهوم بأنه يتمثّل في ما تسعى الدولة إلى تحقيقه من أهداف، وما تعمل على حمايته في مواجهة الدول الأخرى. ووضوح وتحديد مصلحة الدولة عند الجماعة الحاكمة يؤدي إلى استقرار توجهات السياسة الخارجية للدولة، وتكون هي المعيار الذي يحكم الدولة عند تعدد البدائل في القرارات الخارجية. وللمصالح القومية تصنيفات متعددة ليس هذا مجال ذكرها، لكن نشير إلى أن أهم أنواع المصالح هي "المصالح الحيوية" التي لا يمكن للدولة أن تتنازل عن حمايتها وإلا تهدَّدَ بقاؤها، كالحفاظ على المياه للدول الزراعية، أو الحفاظ على سلامة إقليمها خاصة المواقع الهامة كالمضائق.

تَحدُّد المصلحة القومية لدى الدولة يتبعه تحديد "الهدف القومي"، والأهداف القومية في حقيقتها انعكاس للمصالح القومية، مع فارق وحيد، وهو أن الهدف القومي يشترط مع توفّر الرغبة في تحقيقه توفّر إمكانية بلوغ ذلك الهدف، وتتحدد الإمكانية بما يسمى "عوامل قوة الدولة".

هذه العوامل منها ما هو خارج عن إرادة الدولة، كسلوك دولة أخرى إزاءها، فتصبح في حاجة إلى صياغة "رد فعل" مناسب لذلك التحرك الخارجي مقابلها، سواء كان السلوك الخارجي عدوانيا أو تعاونيا، سلميا أو عنيفا. كذلك يحكم الدولة شكل "النَّسَق الدولي" الذي يسود العالم، فإذا كانت هناك أقطاب متعددة (أكثر من قوة دولية عظمى)، فإن مساحة المناورة تزيد. وإذا كنا أمام حالة أحادية القطبية (كالوضع الدولي الحالي)، فإن هامش المناورة يقل بشدة، وهذه العوامل الخارجة عن الإرادة السياسية للدولة لا بد من وضعها في الحسبان أثناء اتخاذ القرار السياسي.

مقابل هذه العوامل الخارجية، تأتي عوامل القوة الذاتية للدولة، وهي تساعدها بالسلب أو الإيجاب في اتخاذ القرار الخارجي. وربما تحتاج هذه العوامل لبعض التفصيل، فمثلا لدينا العامل الجغرافي، إذ يمثّل الموقع الجغرافي أهمية لبعض الدول كتحكّمها في ممرات دولية "قنوات مائية أو مضائق". وتُعد المساحات الشاسعة (في ظل السيادة عليها) عاملا مؤثرا في صد أي عدوان، لما تمثله من إنهاك شديد للقوات المعتدية، كحالة الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب العالمية الثانية. ويُسهم كل من المناخ والتضاريس كذلك في صد العدوان بشكل طبيعي، وقد مثّلت هضبة الحبشة عائقا طويلا للقوى الاستعمارية إلى أن دخلت الطائرات إلى الحروب فاحتلتها إيطاليا عام 1936. ومما هو متداول عن سياسة دولة الاحتلال الإسرائيلي، أن الوفود الخارجية الزائرة لها يتم أخذها في جولة بالطائرة لإيضاح أن الشريط الحدودي للدولة شديد الضيق، مع غياب العمق الجغرافي لدولة الاحتلال في محيط معاد يمثّل خطورة عليهم.

وهناك العامل الاقتصادي كذلك. ففقر الدولة، سواء كان فقرا ماليا أو فقرا في مواردها، يجعلها تقع في فلك التبعية لغيرها، والثراء الاقتصادي يُسهم في بناء جيش قوي يصد أي عدوان خارجي، ويسهم أيضا في تحقيق قدر كبير من الاستقلال السياسي. ويفسّر البعض ظاهرة الاستعمار عقب الثورة الصناعية بالرغبة في فتح أسواق جديدة والحصول على المواد الخام من الدول التي يتم احتلالها، كذلك قد تتعرض الدول لتغيير سياستها وفقا لحاجتها المالية.

ثم تأتي عوامل معنوية واجتماعية، كثقافة المجتمع. وتتحكم الثقافة في تحديد السياسة الخارجية، فمثلا انتشار ثقافة سمو الجنس الآري بألمانيا ساهم في التوسع الجغرافي والتحرك الألماني العسكري حتى نهايات الحرب العالمية الثانية. ويتحكّم كذلك نمط القيادة السياسية في مسار السياسة الخارجية للدول، خاصة في النظم الشمولية، كنظام عبد الناصر في مصر فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

هذه العوامل كلها تحكم عملية القرار السياسي الخارجي للدولة، ويمكن الحكم على قوة الدولة بمدى قدرتها على استغلال "إمكانياتها" لتحقيق "أهدافها". وإذا وضحت المصلحة القومية وتحدد الهدف القومي، يبقى أمام صنّاع السياسة الخارجية أمران: تحديد أفضل البدائل التي تخدم غايتها، ووضع هذا البديل موضع التنفيذ عبر إحدى الأدوات المناسبة.

إن أفضل الأدوات وأقلها تكلفة على الإطلاق هي الأداة الدبلوماسية، ويُقصد بها التفاوض. والتفاوض قد يكون للتوصل إلى اتفاق، وقد يكون لغير ذلك، كمجرد الإبقاء على قنوات اتصال، أو كسب الوقت لتحسين موقف الدولة على أي صعيد (سياسي، عسكري.. إلخ)، أو لمجرد الدعاية كإظهار الدولة بأنها راغبة في التسويات السلمية، أو للتأثير على طرف ثالث، كتفاوض دولة حليفة لأمريكا مع روسيا على شراء سلاح تمتنع الولايات المتحدة عن بيعه لها، فيضطر الطرف الثالث (أمريكا) الدخول في مفاوضات مع حليفته للوصول لتسوية مناسبة، وإنهاء تفاوضها مع خصمه السياسي (روسيا).

ثم تأتي الأداة الاقتصادية، وأبرز استخداماتها: تقديم المنح للدول الممالئة، أو فرض العقوبات الاقتصادية على الدول المناوئة. وزاد استخدام هذه الأداة عقب الحرب العالمية الثانية، لأسباب متعددة أهمها الخوف في دخول حروب كبيرة في ظل وجود سلاح نووي، وانقسام العالم لقطبين رئيسيين يحتاج كل منهما لزيادة عدد الدول المتحالفة معه، فسخّرت الدولتان العظميتان (حينها) إمكاناتهما الاقتصادية لكسب دول في معسكر كل منهما.

وعقب انتشار وسائل الاتصال المختلفة، برزت أداة الدعاية والحرب النفسية، للتأثير على مجتمعات الدول، ومن ثَمَّ التأثير على إرادتها، وعملت هذه الأداة (بشكل كبير) على نشر الثقافتين الشيوعية والليبرالية في ظل الحرب الباردة.

فإذا تعذّرت الحلول السلمية، تبقى الأداة العسكرية هي الحل الأخير لأي دولة لتحقيق مصلحتها القومية. والقوة العسكرية إما تكون للدفاع، فتستخدمها الدولة لحماية نفسها من العدوان فقط، أو تكون للهجوم كما تفعل دولة الاحتلال الإسرائيلي دائما، أو تكون لمجرد الردع كحال أي دولتين نوويتين، فمجرد وجود السلاح النووي يمنع الدولة الأخرى من التفكير في الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة.

ربما كانت الكتابات الأقرب للنمط الأكاديمي مملّة، لكنها تكون هامة أحيانا إذا تم المساس بالأسس الأكاديمية في ظل ثقافة ترى أن أخطاء الزعيم "خطط مستقبلية". وحين يظن ذلك الزعيم أنه يلقّن كبار الفلاسفة، لدرجة أنه أصدر قرارا بتعيين نفسه رئيسا لمجلس أمناء أكاديمية قال من قبل أنه سينشؤها؛ لأنه لن يكون مسموحا لأحد أن يتصدّر للشأن العام قبل أن يفهم معنى الدولة.ونخشى أن تُدرَّس مادة العلاقات الدولية في عصور الظلام (المتوقَّعَة) وفقا لرؤية من يعاني في فهم معنى الدولة لمدة خمسين سنة، والسياسة كما لا يخفى تحتاج إلى النابهين فقط.

أضف تعليقك