• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانيتين

محمد الزغبي

كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ

فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ

تبكي خناسٌ على صخرٍ وحقَّ لها

إذْ رابهَا الدَّهرُ، إنَّ الدَّهرَ ضرَّارُ

لطالما كنتُ أقول إنَّ شعرَ النِّساء في الرّثاء أصدق وأشجىٰ، وشعر الرِّجال في سائرِ الأغراض أكذب وأحلىٰ، فهذي أشعار الخنساء دليلٌ حيٌّ على صدقِ عاطفتِها، وشجو حرفها؛ فهي تكتب بمدادٍ من الدِّمعِ والأسىٰ، فتنظم وتصيغ مقطوعات صادقات يتخللها روحٌ مِنَ حنان الأمومة ونقاء الأخوّة؛ والأم والأخت لا يَشوبُ حبّهما تكلّفًا. الشاعرةُ الصحابية المخضرمة، ولعلّها أشعر النّساء في تاريخ الأدب العربي، فقد ضارعت الفحول بجودة قصائدها، ومَن لا يعرف تلك المرأة العظيمة، التي يتدفّق في فؤادها شلالًا يترقرق بالعطفِ، ويسيل معانٍ عذبة مِن إنسانيةٍ غرّاءَ لا تنضو.

وُلدت الخنساء (تُماضِر) -بضمِّ التاء، وكسر الضاد- فتفتّحت عيناها أول ما تفتّحت، على أبٍ شريف في قومِه، وأخوين سيّدين فارسين، هما صخر ومعاوية، وعاشت أيّام طفولتها كأيّ طفلة تكون في عمرها تلهو وتمرح وتلعب، ثم انتقلت إلى سنيّ صباها وشبابها، وما كان فيها ما يُميِّزها عن سواها، أو يجذبُ الأنظار إليها، اللهمّ إلّا حسنها الذي حمل دريد بن الصّمة على خطبتِها من أبيها، حتى قال فيها الشّعر وتغزّل بها:

حَيُّوا تُماضِرَ واربعوا صَحبِي

وقِفوا فإنَّ وقوفَكم حَسبيْ

أَخُناسُ قد هام الفؤادُ بكم

وأصابه تبلٌ مِنَ الحُبِّ!

ولكنّ تُماضر رفضَته، وهو مَن هو في فروسيّته وشجاعتِه، وعلوّ كعبِهِ في قومِه وشعره، وربّما هذا أمرٌ آخرَ ميّزها عن غيرها من فتيات عصرها، فكم مِن فتاةٍ ودَّت أنْ يكونَ ابن الصّمة بعلًا لها؛ ولعلّ ذلك -أي رفضها- يرجع إلى البيئة التي عاشت ونشأت بها، فقد كانت مدللة عند أهلها، كريمة في قومِها، يُفاخِرُ والدها العرب ويباهي بنسبِه وفرسانه؛ فجُمعَت لها أسباب العزّة والإباء، وتداعت إليها معاني الأنفة والأصالة، حتى اعتزّت بنفسها، واعتمدت عليها؛ فتكوَّنت شخصيّتها وسماتُها في ظِلال بيئة يحدوها الشرف، ويحيط بها المجد.. وكان أخوها صخرًا يَخصّها دون غيرها، ويُكرمها، ويُحسن إليها، وهي التي قالت فيه:

 إذا القومُ مدُّوا بأيديهم

إلى المجدِ مدَّ إليهِ يدا

فنالَ الذي فوقَ أيديهمُ

مِنَ المجدِ ثمّ مضىٰ مصعدا

سُئل الأصمعيّ عن سرِّ قولِ الخنساء في نعيها صخر حين مات وقالت:

يذكِّرني طلوع الشَّمسِ صخرًا

وأندبهُ لكلِّ غروبِ شمسِ!

"فقالوا له: لماذا خصَّت الشّمس دون القمر والكواكب؟ فقال: لكونه كان يركب عند طلوع الشمس يشن الغارات، وعند غروبها يجلس مع الضيفان، فذكرته بهذا مدحًا؛ لأنه كان يغير على أعدائه ويتقيد بضيفه!"، فكانت شديدة التعلّق به، كثيرة الإعجاب بسخائه وجوده. وردَ في كتاب الأغاني للأصفهاني، ما معناه: أنّه كان يُضربُ في سوق عكاظ، للنّابغة الذبياني قبّة من أدم حمراء، فيأتيه الشعراء من كلِّ جنب، فيعرضون عليه أشعارهم، وكان أول من أنشده الأعشى، ثم حسان بن ثابت، ثم الخنساء بنت عمرو بن الشريد أنشدته من شعرها:

وإنَّ صخرًا لتأتمُّ الهداةُ بهِ

كأنهُ علمٌ في رأسهِ نارُ!

فقال النابغة لها: لولا أنَّ أبا بصير -يعني الأعشى- أنشدني آنفًا لقلتُ إنكِ أشعر الجن والإنس!» فهذه شهادةٌ عظيمة من شاعر فحل أجمع النّقاد على أنّه من شعراء الطبقة الأولى، وحسبُه أنّه ترأّس سوق عكاظ، وحكمَ بين الشعراء، وميّز الحسن من الأحسن في شعرهم، فكان يرفع شأن مَن يريد مِن بينهم ويضع مَن يريد!

أشعرَت الخنساء وبرز شعرها، وطار ذكره في الآفاق، وذاع بين الناس، لمّا فقدت أخويها صخر ومعاوية في الجاهلية، فملأت الدنيا بكاءً عليهما، وغالت في جزعها وشَجَنها، فاسترسلت في أحزانها، وتواصلت في بكائها، وأعان شعرها الحزانى على فيض العَبرات، وذرف الدموع، وإنِّي لأحسَبُ أنَّ كلّ عينٍ تجودُ بقَطْرِها -إلى وقتنا- فيها حرارةٌ مِن حرِّ دموع الخنساء، وفيها معنى من معاني التياعها وأسفها!

يا عينِ جودي بدمعٍ منكِ مَسكُوبِ

كلؤلؤٍ جالَ في الأسْماطِ مثقوبِ

إنِّي تذكّرتُه واللّيل معتكِرٌ

ففي فؤادي صدعٌ غيرُ مشعوبِ

أدركت الخنساء الإسلام، فأسلمت وحَسُن إسلامها، وتبدّلت بواعث بكائها، فصارت تقول -كما روى ابن قتيبة-: "كنت أبكي لصخر من القتل، فأنا أبكي له اليوم من النار!ط، فلله أنتِ يا تماضر! هل نبكي اليومَ أمواتنا خشية عليهم أنْ يكونوا من أهل النّار -والعياذ بالله- أم نبكيهم لمصيبةِ الفقدِ بذاتها فقط؟! نسأل الله السّلامة! لمّا نادى منادي الجهاد، وشبّت أوار حرب القادسية، لبّت النداء، وأجابت دونما وَجَل أو وهن، وحضرت إلى أبنائها الأربعة، فأوصتهم وصيّةً خُلِّدت حروفها في العالمين، وحثّتهم على الجهاد في سبيل الله، وكان من جملة ما قالت لهم: "إذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغْدُوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمَّرَتْ عن ساقها، واضطرمت لظًى على سياقها، وجللت نارًا على أرواقها، فتيمموا وَطِيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها؛ تظفروا بالغُنم والكرامة، في دارِ الخلد والمُقامة".

نعم، هذه الخنساء، الأخت الحنون، والأم الرؤوف، التي كانت مثلًا سائرًا بين الناس في حزنها وفي بكائها، حتى قال بعض الشعراء:

فيا خنساءُ، مُذْ فارقْتِ صَخْرًا

وعيْنُكِ فارَقتْ طعمَ الرُّقودِ

يُبَكِّيكِ التَّذكُّرُ كُلَّ حينٍ

كما يُبْكي السَّما صَوْتُ الرُّعودِ

هي ذاتها التي دفعت فلذات كبدها وبضعة نفسها، إلى الجهاد والقتال؛ بعد أنْ نفذ الإسلام إلى قلبها، وتمكّنت عقيدة التّوحيد منها، وتخللت روحها، وجرت مسالك عروقها، فعظُم إيمانها بالله، وعلِمَت حسن ثوابه، وجزيل إحسانه! كان يقول ابن حزم: «العاقلُ لا يرىٰ لنفسِه ثمنًا إلّا الجنّة!». ولأنَّها كانت رزينة العقل، رصينة الرّأي، ولأنَّ أبناءَها ليسوا إلّا بضعة منها، بل أعزّ عليها من نفسِها، فهي لم ترَ لأنفسهم ثمنًا سوى الجنة، فدفعتهم إليها!

سمعَ الأولاد وصيةَ الأم المؤمنة الحكيمة، وعزموا على قولها، وأصبحوا مبكّرين إلى الصفوف الأولى، فخرج كلٌّ منهم يقول شعرًا يُشيرُ به إلى قَبول النّصح، وجميل عقباه، فيُقتَل شهيدًا بعدها، وهكذا تتابعوا، حتى استشهدوا عن آخرهم، فلمّا بلغها خبر استشهادهم، قالت قالةَ المُحتَسبة العارفة بالله: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربِّي أنْ يجمعني بهم في مستقرِّ رحمته!» ولم تزد على ذلك!

يا خنساء! باللهِ عليكِ أجيبيني، ألستِ القائلة في صخر:

ألا يا نفس لا تنسيه حتّى

أفارق عيشتي وأزور رمسي

ولولا كثرة الباكين حولي

على أمواتهم لقتلتُ نفسي!

إنَّ دموعَكِ لم ترقأ بعدُ حزنًا على أخويك، ولم تقضِ لُبانتكِ مِن رثائهم، وإنّي لا أزال أرى خطّين في وجهكِ من سيْما البكاء؛ حتى فجئتِ وفجعتِ ببنيكِ الأربعة! فما الذي بدّل الحال، وما الذي وقع فغيَّر المقال؟ وكيف تطيقين صبرًا؟ وكيف استطعتِ حبس الأمر الجلل؟ ولمَ كتمتِ الشكوىٰ عن العالمين؟ إنّه الإيمان.. الذي يجلب الصبر والسلوان، ولا شيء سواه، فأيّ شيء يحملُ المرء على أنْ يتمرّدَ على عاطفتِه الجيّاشة، ويثور على رقّةِ قلبه، وسهولة دمعه، سوى حسن ظنّه بالله، وصحيح عزمه إلى رضاه؛ فما أعظمَ ثمرات الصّبر والإيمان، فبهما تتحقق معية الله، ومحبة الله، وغفران الله: "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"، "وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ"، "إنَّما يُوفَّى الصَّابرون أجرهم بغير حساب"؛ وإنِّي لأرجو الله تعالىٰ أنْ تشملنا وإيّاكِ آياته الكريمة هذه.

الصَّبرُ مثل اسمه مرٌّ مذاقته

لكن عواقبه أحلىٰ مِنَ العَسلِ!

ماتت الخنساء، ومات بنوها، وصاروا إلى رحمة ربِّهم، ولكنّ الأمّة ما زالت تلدُ خنساوات مرابطات مجاهدات؛ فاسألوا -إنْ كنتم لا تعلمون- كلّ أرضٍ من أراضينا المسلوبة تُخبركم اليقين، واسألوا غبار معاركنا وفوّهات بنادقنا عن نظراء أبنائها تنبئكم صحّةَ مقالي!

  • نقلا عن مدونات الجزيرة

أضف تعليقك