• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ 3 ثواني

بقلم: د. فتحي يكن

من أبرز العوامل التي تساعد الداعية المسلم على العطاء الناضج المستمر ، تمكنه من تحقيق التوازن بين اهتماماته ، وقدرته على النهوض بكامل مسئولياته ، دونما تفريط أو إفراط ، ودونما تغليب جانب على آخر .

 

فالداعية أمام مسئوليات ثلاث :

 

1 ـ مسئوليته تجاه نفسه .

2 ـ مسئوليته تجاه أهله .

3 ـ مسئوليته تجاه مجتمعه .

والداعية الموفق الناجح ، هو الذي يحفظ معادلة التوازن هذه ، فيعطي كل جانب من هذه الجوانب حقه من الاهتمام ، تنفيذًا لتعاليم النبوة ، وامتثالاً لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إن لنفسك عليك حقًّا ، وإن لزوجك عليك حقًّا ، وإن لربك عليك حقًّا ، فأعط كل ذي حق حقه ) .

 

والذين لا يتقيدون بهذه القاعدة ، ولا يعملون على تحقيق التوازن بين اهتماماتهم ، ويغالون في الاهتمام بجانب من مسئولياتهم على حساب الجوانب الأخرى .. إن هؤلاء في أكثر الأحيان يفقدون عنصر الاستقرار في حياتهم ، ولا يملكون القدرة على الاستمرار في دعوتهم .

 

وإذا كان الإسلام يفرض على الأخ المسلم أن يوازن بين اهتماماته تلك ، فلكي يتمكن من تحقيق قوامة الدعوة على جوانب حياته كلها ، وبذلك يكون رجل الدعوة في كل الميادين الخاصة والعامة .

 

ومن أخطر الأمراض التي تصيب الدعاة والعاملين للإسلام ، اهتمامهم بالإسلام خلال عمل الدعوة ، وانفصامهم عنه خارج هذا النطاق ، سواء في شئونهم الخاصة أو العائلية أو الوظيفية بمعنى أن هؤلاء يعيشون الإسلام من خلال أجواء التنظيم فقط ، ثم ينسلخون عنه فيما عدا ذلك من أجواء ، وبذلك يكون الإسلام في وادٍ وحياتهم الخاصة والعائلية في وادٍ آخر .

 

وإذا كان على الأخ المسلم تحقيق المعادلة بين مسئولياته المتعددة ، فإن عليه كذلك أن يعمل على تحقيق التوازن في نطاق كل مسئولية من هذه المسئوليات .

 

أولاً : مسئوليته تجاه نفسه :

 

كثير من الدعاة يسقطون بالكلية مسئوليتهم تجاه أنفسهم ويعتبرون ذلك من الإيثار ، علمًا بأن الإنسان في الإسلام مسئول في الدرجة الأولى عن نفسه : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا } ( التحريم : 6 ) ، { كل نفس بما كسبت رهينة } ( المدثر : 38 ) .

 

وحيال اهتمام الأخ المسلم بنفسه ، لا بد من تحقيق التوازن في ذلك كذلك .. فلا يكون اهتمامه ( بجسده ) على حساب ( عقله ) ، أو يكون اهتمامه ( بعقله ) على حساب ( روحه ) .. وإنما يجب أن يكون اهتمامه بهذه الجوانب جميعًا من خلال منهج الإسلام في تكوين الشخصية الإسلامية ..

 

أ ـ فهو مسئول حيال جسده أن يدفع عنه كل ما يضعفه ويرهقه ويؤذيه ، ويحفظه سليمًا قويًّا معافًا ، قادرًا على مواجهة الظروف الصعبة وتقلبات الأيام .

ب ـ وهو مسئول حيال عقله ، أن يحفظه رشيدًا متزنًا ، وأن يوفر له ما يوسع آفاقه وينمي قدراته .. والداعية مشرف على الإفلاس لا محالة إن كان حجم عطائه أكبر من حجم أخذه وتلقيه ( وفاقد الشيء لا يعطيه ) .

ج ـ وهو كذلك مسئول عن قلبه يصقله ويصلحه ويزكيه ، يعالج اضطرابه وهواجسه بالإكثار من ذكر الله ـ تعالى ـ وينمي شفافيته بالإقبال على طاعة الله ، وهو في كل ذلك يتبع المنهج الرباني الذي تربى عليه الجيل القرآني الأول .

ثانيًا : مسئوليته تجاه أهله :

 

وكما أن على الداعية مسئولية تجاه ( نفسه ) فإن عليه مثلها تجاه أهله ( زوجته وأولاده وبيته ) ، وتحقيق التوازن الذي يأمر به الإسلام يفرض إعطاء الأهل حقهم الكامل من هذه القسمة العادلة .

 

أ ـ فالداعية مسئول عن إقامة الإسلام في أهله وبيته وبين أفراد عائلته ، قبل أن يكون مسئولاً عن إقامته في مجتمعه ..

 

ومسئوليته في هذا النطاق أكبر وأخطر .. أو لم يسمع إلى قوله ـ تعالى ـ : { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } .

 

إن علاقة الأخ بزوجته يجب أن تتعدى العلاقة الحسية لتصبح علاقة الشريكين المسئولين عن إرساء قواعد الإيمان في بناء بيتهما المسلم ، وعن تحقيق أجواء المودة والرحمة التي هي سر نجاح البيت المسلم .. كل ذلك من خلال الكلمة الطيبة ، والنصيحة الدافئة ، والقدوة الحسنة التي يجب أن يقدمها الأخ من نفسه قبل أن يطلبها من أهله ومن الآخرين .

 

إن بعض الإخوة يعمدون إلى ممارسة مبدأ ( القوامة ) ممارسة خاطئة ، ويظنون أن هذا المبدأ يفرض أن تكون علاقة الرجل بالمرأة كعلاقة الرئيس بالمرءوس ، وكعلاقة الضابط بالجندي ، مع أن هذا الفهم غريب على الإسلام ، فضلاً عن كونه يساعد على هدم الحياة الزوجية لا على بنائها ، وعلى تعاستها وشقائها وليس على سعادتها وهنائها .

 

إن هذا لا يعني ـ بحال ـ أن يكون الزوج أسير زوجته وأسير أهوائها ورغباتها ـ معاذ الله ـ ولكنه يعني أن مسئوليتها لا تقل عن مسئوليته في بناء الأسرة المسلمة ، وإنها إن كانت كذلك وجب أن تكون العلاقة بينهما علاقة مسئولية من طرفين لا من طرف واحد .

 

إن أخطر ما يصيب البيت المسلم ويتهدد الأبناء بالضياع والانحراف وبكثير من العقد النفسية ، ناجم أساسًا من سوء العلاقة بين الزوجين ، ومن دوام الخلاف والشجار ولواحقه المدمرة .

 

ب ـ والداعية مسئول عن تأمين الحقوق المادية لبيته ، فهو مسئول عن العمل والكسب ، وإذا كانت ضغوط الحياة دفعت اليوم بالنساء إلى خوض مجالات العمل المختلفة فهذا لا يعني أن عمل المرأة أصبح واجبًا ، أو مبررًا لتقصير الرجل عن القيام بمسئولياته في هذا الجانب .

 

وليس للزوج أن يكره زوجته على العمل خارج المنزل إلا أن يكون ذلك عن تفاهم بينهما ، وحاجة ضاغطة وملحة عليهما ، وإقبال ورضى من المرأة بذلك .

 

والحقيقة أن كثيرًا من المشاكل العائلية ما كانت لتحدث إلا بسبب عمل المرأة خارج المنزل ، مما يتسبب في أن تعيش العائلة على أعصابها ، وفي سباق من المسئوليات المتراكمة والأوقات الضاغطة ، وبذلك يتعذر قيام أي منهاج في البيت ينظم علائق الزوجين ببعضهما ، وعلائقهما بأولادهما ، ويؤمن الحاجات التربوية فضلاً عن الحاجات العضوية الأخرى بشكل مقبول من نوم وراحة وطعام وفسحة ونظافة .. إلخ .

 

والواجب يقتضي في حال اضطرار المرأة إلى العمل خارج البيت أن يكون التعاون بين أفراد العائلة على القيام بالواجبات اليومية على أعلى مستوى ، للتعويض عن الفراغ الذي يسببه غياب المرأة عن البيت ، ومنعًا لنشوء أسباب مثيرة للخلاف باعثة على تعاسة البيت وشقائه .

 

ثالثًا : مسئوليته تجاه دعوته :

 

إن واجب الأخ المسلم تجاه دعوته واجب مقدس وأساسي لا يجوز التفريط به أو التهاون فيه ، وعليه أن يفرد له من الجهد والوقت ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وأن يسعى إلى تحقيق وتطبيق المعادلة والتوازن اللذين أمر بهما الإسلام .

 

ثم إن عليه أن يحاول مضاعفة عطائه الدعوي دون أن يمس جوهر التوازن وحقيقته حتى يصبح التوجه الحياتي توجهًا دعويًّا في كافة مجالاته ، وحتى يتحقق فيه قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( من جعل الهم همًّا واحدًا كفاه الله هم دنياه ، ومن تشعبته الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك ) رواه الحاكم .

 

إن على الأخ المسلم أن يدرك أن الاستغراق في طلب الدنيا ليس شرطًا في تحقيق الغنى والثراء ، ولو حققه فليس شرطًا في تحقيق السعادة والهناء .

 

فكم من أناس سفحوا على حطام الدنيا جل عمرهم دون أن يدركوها وخسروا الآخرة ، ومنهم من أدركها ولم يدرك السعادة منها فباء بالشقاء .

 

وكم من أناس أداروا للدنيا ظهورهم ابتغاء أعمال الآخرة ، فأقبلت عليهم الدنيا ذليلة صاغرة ، وصدق الله ـ تعالى ـ حيث يقول : { ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب } ( الطلاق : 2،3 ) .

 

وواجب الأخ المسلم أن يكون عطاؤه للإسلام وللدعوة هو العطاء الأكمل والأوفر والأكثر ، وليس العكس ، كما هو شأن الذين يبخلون بأوقاتهم أن تذهب في الدعوة هدرًا ، ويبخلون بأرواحهم أن تزهق في سبيل الله غيلة وغدرًا ، ثم هم لا يتخلفون عن ركوب أعتى الأمواج خطرًا ومواجهة أشد الظروف ضررًا ، استزادة من الدنيا ونعيمها .. ألا { قتل الإنسان ما أكفره ، من أي شيء خلقه ، من نطفة خلقه فقدره ، ثم السبيل يسره ، ثم أماته فأقبره ، ثم إذا شاء أنشره ، كلا لما يقض ما أمره } ( عبس : 17 ـ 23 ) .

 

إن عمل الدعوة له ( لذة ) لا تدانيها لذة المال والنساء .. وإن له عند الله لقيمة وأجرًا دونهما قيمة الدنيا ونعيمها ..

 

إنها لذة الهداية : ( لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير من حمر النعم ) متفق عليه ..

 

لذة الشعور بالرضى : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } ..

 

لذة الشعور باستعلاء الإيمان وانتصاره في النفس والمجتمع : { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله } .

 

إن الإسلام يريد أصفياء لدعوته ، كرماء في سبيله ، يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار ، وبخاصة في عصر أكثر الناس في إدبار والقليل في إقبال ، وغلبة القلة المؤمنة مشروطة بكلية إقبالها على الله .

 

العمل الإسلامي المتكامل والمتوازن عمل صعب

كثيرًا ما تبرز في ساحة العمل الإسلامي اتجاهات ذات اهتمامات خاصة غير متكاملة ولا متوازنة ، هذه الاتجاهات قد تنمو نموًّا سريعًا ، وقد يكون نموها السريع هذا محل تساؤل لدى بعض العاملين في الاتجاه الإسلامي المتكامل والمتوازن ، وقد يصل الأمر ببعض هؤلاء حد التشكك في دعوتهم حيث تبدو لهم بطيئة في سيرها ونموها ، في حين يرون تلك تتنامى سرعة ، دون أن يفطنوا إلى السر والسبب ..

 

إن السبب في سرعة نمو الاتجاهات ذات الاختصاص أو الاهتمام الجزئي إنما يعود إلى سهولة العمل في الاتجاه الواحد ، وسهولة الإبداع في الاختصاص الواحد .

 

إن الحركات ذات الاهتمام السياسي مثلاً ستكون أقدر على النمو واكتساب الخبرة السياسية والتفوق في العمل السياسي من حركة ذات اهتمام كلي ونشاط شامل .

 

وإن الاتجاهات ذات الاختصاص بجانب من جوانب المنهج الإسلامي ـ كجانب العقيدة مثلاً أو الفقه ـ ستكون مساحة عملها في هذا الإطار أكبر من حركة متعددة جوانب الاختصاصات والاهتمامات .

 

ولكن المشكلة لا تكمن هنا ، إنما تكمن في عجز هذه الاتجاهات والحركات غير المتكاملة والمتوازنة عن تغطية أي جانب من جوانب العمل الإسلامي خارج إطار تخصصها ، في حين أن العمل الإسلامي المتكامل والمتوازن يملك من قدرة التحرك والعمل في كافة المجالات وإن بنسب أقل ، ولكن ليس دون المستوى المطلوب .

 

إن تكوين ذهنية ذات إلمام بعلم التوحيد وشئون العقيدة مثلاً ، أسهل بكثير من تكوين ذهنية ذات إلمام بكافة العلوم الشرعية المطلوبة ، كما أن تكوين ذهنية ملمة بالعمل الاجتماعي أو الخيري فقط ، سيكون أسهل من تكوين ذهنية ملمة بعمل الدعوة في كافة القطاعات والمجالات الاجتماعية والسياسية والفكرية والحركية والطلابية ، وغيرها .

 

إن سهولة العمل الجزئي هي سبب تناميه السريع ، وهي بالتالي سبب ارتكاسه السريع كذلك ، أما صعوبة العمل الكلي المتوازن وما يحتاجه من معاناة فهي سبب نموه البطيء ، وهي بالتالي سبب ثباته ونجاحه ، وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث يقول : ( أحب الأعمال إلى الله ـ تعالى ـ أدومها وإن قل ) رواه الشيخان .

أضف تعليقك