• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد..

فإن البشرية لا تعرف على امتداد تاريخها كله- على وجه القطع واليقين- مؤتمرًا واجتماعًا عالميًا كمؤتمر حجِّ المسلمين واجتماعهم؛ فهو فريدٌ من كل وجه:

فريدٌ في الداعي إليه، فإن الله تعالى هو الذي أمر به، فأجاب الناس دعوته، وامتثلوا لأمره، امتثالَ حبٍ وخضوع، تهفو إليه النفوس، وتحنّ إليه القلوب، وتطير إليه أرواح المؤمنين، وتشرئب نحو مناسكه أعناقهم.. ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (الحج:27).

فهل عرفت البشرية داعيًا أعظم؟ وهل سمعت بإجابة أتمَّ وأخلص وأروع؟ وهل استطاع ملكٌ من ملوك الأرض أو حاكم من حكامها أن يحشد الناس على ذلك النحو العجيب والمتواصل في كل عام، برًا كان ذلك الحاكم أو فاجرًا، مهما غلظ سلطانه واستحكم أمره؟

وهو مؤتمر فريد في الباعث إليه؛ حيث لم تتحرك الملايين نحوه رغبةً في مغنم أرضي، أو رهبةً من مغرم دنيوي؛ وهم لم يتركوا أوطانهم وديارهم وأهليهم وأموالهم إلا لذكر الله وتعظيمه وتوحيده وتنزيهه وعبادته وتقديسه، ﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (البقرة: من الآية125)، ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ (البقرة: 198-200)، وليس تسلل بعض النيّات المدخولة في تلك الحشود الهائلة مما يشوّش على تلك الحقيقة الكبرى، أو يقلل من بهائها.

وهو مؤتمر فريد في جدول أعماله ومنهج أدائه؛ فجلُّ مناسكه- من طواف وسعي بين الصفا والمروة ونحر للأضحية ورمي للجمرات- تذكيرٌ بسيرة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وآله، في ملحمة تضحيتهم النبيلة في سبيل الله لنيل رضوانه، وهي سيرة جديرة بالخلود والتأمل والدرس والتذكر الدائم على نحو ما يفعل الحجيج وتعيشه أمة الإسلام كل عام.

وهو تواصل فذّ بين الأمة التي تحمل الدين الخاتم ومن سبق من أنبياء الله وحملة رسالته، وهو زاد تعيش به الأمة التي ورثت مهمة الإبلاغ عن الله والجهاد في سبيله، وهو وفاء لأبي الأنبياء الذي اعتز بالإسلام وسمّى به أمته، ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران:68)، ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (آل عمران:95)، ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ (البقرة: من الآية 128).

أمة التوحيد والوحدة

ومؤتمر الحج- بعد ذلك- فريد في دلالته، فهو دليل على حيوية هذا الدين وهذه الأمة؛ فالإسلام وحده هو القادر على أن يحشد تلك الحشود الهادرة، وهذه الأمة قادرة- حين تلتزم بشريعتها، وتعظِّم شعائر ربها- أن تبرز أعظم خصائصها، وهي أنها أمة التوحيد والوحدة، توحيد لا يشوبه شرك، فلا تعظم إلا الله، ولا تخشى سطوة غيره، ولا تُحني هامةً لسواه، ووحدة لا يكدرها تفرق واختلاف، ولا تستسلم لمخططات التجزئة والاحتراب.. ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:92)، ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ (المؤمنون:52).

إن قضية الوحدة الإسلامية- والحج أروع مظاهرها- ليست شأنًا سياسيًا يخضع للمناورة أو المساومة أو المخادعة عند من يفصلون بين السياسة ودين الله، وليست مسألة فكرية جدلية يتنازع حولها من فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، بل هي فرض ديني، وقضاء سماوي، تُثاب الأمة على فعله، وتعزّ وتسمو، وتأثم على تركه، وتذل وتخزى.. ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: من الآية103)

وإن الاختلاف والتشرذم سلاح يُجيد أعداء الأمة في داخلها وخارجها استخدامه لكسر شوكتها وجعل بأسها بينها ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص:4)، وهو نقمة من الله تعالى تحيط بمن آثر دنياه، واتبع هواه، وأخلد إلى الأرض ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ (الأنعام: من الآية65).

أين نحن من ذلك وبعضنا ينظر إلى محن إخوانه في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وقطاني، وغيرها من أرضنا الممتحنة، نظرَ المغشي عليه من الموت، ثم يقول: ما لنا ولفلسطين؟ ما لنا وللعراق؟.. فليتهم يفيقون، وليت أصوات حجيجنا تهدر في أسماعهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".. نداء واحد بلغة واحدة رغم تباين أصولهم وأعراقهم.

دين المساواة

وفي مؤتمر الحج أيضًا تبرز عالمية هذا الدين الذي يريد الجاهلون الانعزالَ به عن العالم الصاخب من حولهم، والمتكالب عليهم.. وهيهات، فلن يُتركوا لما يريدون، وهو يؤسس لتلك العالمية على أساس راسخ من المساواة والعدل، فملايين الحجيج يأتون من كل فج عميق، على تباين ديارهم وأوطانهم وأجناسهم ليقفوا في صعيد واحد، في يوم واحد، على أرض عرفات، وقد أذاب الإسلام ما بينهم من حواجز مدَّعاة، وصهرهم في بناء واحد متماسك، لا ترى فيه عوجًا ولا أمتًا، وهم يتذكرون خطبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: "يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى"، وقوله:" كلكم لآدم، وآدم من تراب".

إنه درس بليغ لدعاة العولمة الغاشمة اليوم، الذين لا يرون سبيلاً لتحقيقها إلا بفرض سطوتهم وطغيانهم على الآخرين من المستضعفين، وإلا من خلال عنصريتهم البغيضة التي ترى في الآخرين خدمًا لها وعبيدًا.

دين التضحية والفداء

ومؤتمر الحج أخيرًا تخليدٌ لمعاني التضحية في سبيل الله، حين استعلى إبراهيم عليه السلام على جواذب الأرض جميعًا، وعى عواطف الإنسان – زوجًا وأبًا - في أخص خصائصها التي تقهر الإرادة وتشل العزم، ولقد خلَّد القرآن الكريم دعاءه الضارع إلى ربه الرحيم حين ترك زوجه ورضيعه في صحراء العرب بغير أنيس: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (إبراهيم:37).

وخلَّد القرآن ذلك المشهد المهيب: إبراهيم وهو يهمّ بنحر ولده امتثالاً لأمر الله، ليخلص قلب الخليل من كل شريك في المحبة إلا لله عز وجل، ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (الصافات:103: 105).

وإذا كانت تلك المشاهد النورانية تجذبنا إلى تأمل حال الأسرة المسلمة- أبًا وزوجًا وولدًا- في أسمى حالاتها، فإن مشاهد التضحية فيها تبقى هي الأروع والأعمق دلالة والأشد أسرًا.

فيا أمة الإسلام تعلموا من أم إسماعيل ثقتها بالله: "الله أمرك بهذا؟ إذن لن يضيعنا"، وافقهوا نُبلَ الانصياع لأمر الله من إسماعيل الغلام ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات: من الآية102)، وقفوا عند عظيم تضحية أبيكم إبراهيم وعظيم مآلها: نصرًا وتمكينًا وحرمًا آمنًا لله تعالى، وقرآنًا يتلى بذكره وسيرته، ومقامًا عند الله عليًّا ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ (النساء: من الآية125).

يا أبناء الإسلام! انحروا شهواتكم وأنانيتكم وحرصكم وخوفكم قبل أن يسوق أعداؤكم كلَّ يوم منكم فريقًا للنحر وأنتم تنظرون!!

تهنئة بالعيد

وفي هذا المقام نتوجه بالتهنئة بالعيد إلى المرابطين على ثغور الإسلام في كل موقع للجهاد.. إلى أهلنا في فلسطين تحت القصف الداوي والعدوان الأثيم.. وإلى أهلنا في العراق الصامدين أمام أعتى صور الطغيان العالمي في صلفه وفجوره.. وإلى أهلنا في أفغانستان تحت حصار الجوع والموت، والعالم من حولهم قد عدم سمعه وبصره.. وإلى المجاهدين في الشيشان وكشمير، والصامدين في السودان وغيرها من عالمنا الإسلامي في حالات مخاضه الأليم الذي يوشك أن يشرق فجره عما قريب بإذن الله.

وإلى إخواننا خلف الأسوار، وفي سجون القساة، وإلى أهليهم الصابرين المحتسبين، وإلى أطفالهم في يوم عيدهم، وقد ضنّ الظالمون عليهم بصفو البسمة وهناءة اللُّقيا، ثم هنيئًا لحجاج بيت الله ووفد الرحمن، يوشك أن يعودوا بإذن الله بذنب مغفور.. فاللهم تقبل منَّا ومنهم، آمين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

القاهرة

في :9 من ذى الحجة 1425هـ

الموافق 19 من يناير 2005م

أضف تعليقك