• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم: د. توفيق الواعي

ما أسعد الإنسان حين يسير وراء أمله ويسعى نحو أهدافه وإن تحمَّل المشاق وقارع الخطوب!!، وما أشقاه حين ينحدر إلى مصير المجهول ويهرول نحو التعاسة واليأس وفقدان الأمل!!.

وهجرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهجرة أصحابه كانت هجرةً لنصر العقيدة وبناء دولة، وسعيًا وراء أهدافٍ كبار وغايات عزيزة، وإن تحمَّلوا في سبيل ذلك المشاق، وتكبدوا الأهوال.

أما هجرة المهزومين والمطرودين من ديارهم والهاربين من جحيم السجن والقتل، فلهم شأنٌ أخر.. تضيع معه الآمال وتُهتَك فيه الأعراض، وتنهدم فيه الدول وتسقط فيه العروش، وفرقٌ بين هجرةٍ وهجرةٍ، وحالٍ وأحوالٍ، ومصائرَ ومصائر.

والهجرة الإسلامية كانت هجرةَ جهادٍ في سبيل الله واحتسابٍ للعمل الصالح وبذلٍ للطاقة والجهد؛ لنيل العز والسؤدد؛ ولهذا ينال الإنسان فيه الأجر حتى وإن سقط في الطريق ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ (النساء: من الآية 100).

رُوي أنه لما نزلت هذه الآية سمعها رجلٌ من بني ليث، شيخٌ كبيرٌ مريضٌ يقال له جندب بن ضمرة، فقال: "والله لا أبيت الليلة في مكة.. أخرجوني حتى ألحق برسول الله"، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتَوا به إلى التنعيم، فأدركه الموت، فصفَّق بيمينه على شماله، ثم قال: "اللهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك". ومات.

فبلغ خبره أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: "لو وافى المدينة لكان أتمَّ وأوفى أجرًا"، وضحك المشركون، وقالوا: "ما أدرك هذا ما طلب"، فأنزل الله: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (النساء: من الآية 100).

والهمم الكبيرة حسبها أن تموت في سبيل غاياتها، وتركض وراء آمالها لتُرضي ربها- سبحانه- ثم ضمائرَها وأمتَها.

هذا وتتسابق العزائم القوية في أمثال تلك المواقف، وتخوض الشدائد بغير وهنٍ ولا كللٍ، ويستوي في ذلك الرجل والمرأة، قال الطبري: عن مجاهد، قالت أم سلمة: "يا رسول الله.. تذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر"، فنزل قول الله- تعالى-: ﴿أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ (آل عمران: من الآية 95)، فكيف يُمنع عن فضل الله بشرٌ؟!، ولا فرق فيه بين غني وفقير، ولا بين ذكر أو أنثى، ولكن بشرط أن تكون العزائم قويةً، والنياتُ صحيحةً، قال- صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

والنيات تتعدد والوجهات تتباين؛ فالهجرة هي الانتقال من وطن إلى وطن، والأوطان كثيرةٌ في هذا الزمان، فمثلاً ينتقل الإنسان من وطن القهر والظلم إلى وطن الحرية وكرامة الإنسان، وطنِ الغفلة إلى وطن اليقظة، وطنِ المعصية إلى وطن الطاعة.

قال الإمام الغزالي: تجب الهجرة من وطنِ الظلم إن خاف أن يرهق إلى فساد، أو يحمل على مساعدة السلاطين الظلمة في الظلم والمنكرات، فيلزمه الهجرة إن قدر عليها؛ فإن ادعاء الإكراه لا يكون عذرًا في حق من يقدر على الهجرة، وينتفي العذر والإكراه إذا قدر على إزالة المنكر، أو كان يستطيع أن يجمع حوله من يستطيع بهم أن يغيِّر، وإن كان في هجرته تجميعٌ للطاقات بعيدًا عن أهل المنكر، ثم يتم التغيير بعد ذلك فلا بأس، بل هو من الواجبات، وهذا ما فعله الرسول- صلى الله عليه وسلم-.. هاجر وجمع الطاعات وكوَّن ما استطاع به أن يجاهد الكفر والكافرين وينتصر عليهم.

ولا يخفى على أحد أن في الهجرة النبوية وفيما يماثلها عنتًا ومشقةً وغربةً ينبغي أن يتحملها ويعان عليها، قال- صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق، فقعد له بطريق الإسلام ، فقال: أتسلم وتترك دينك ودين آبائك؟! فعصاه وأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك ومتاعك، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: أتجاهد وتتلف النفس والمال، فتقاتل فتُقتَل، فتُنكَح نساؤك ويُقسَّم مالك، فعصاه وجاهد. وقال- صلى الله عليه وسلم-: "فمن فعل ذلك فمات، كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة" وصدق الله: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ (آل عمران: 195).

هذا وقد كان- صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون يجلون المهاجرين، وكان المجاهدون يُسَرُّون بذلك.. دخلت أسماء بنت عميس على عمر، فقال لها عمر سبقناكم بالهجرة- وقد كانت أسماء من مهاجري الحبشة، ثم هاجرت إلى المدينة من الحبشة- فنحن أحقُّ برسول الله- صلى الله عليه وسلم- منكم، فغضبت وقالت: كلا، والله كنتم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء والبغضاء في الحبشة؛ وذلك في الله ورسوله، وأيم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنحن كنا نؤذى ونخاف، فلما جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت: يا رسول إن عمر قال كذا وكذا، قال: "ليس بأحق بي منكم؛ له ولأصحابه هجرةٌ واحدةٌ، ولكم أنتم يا أهل هجرة الحبشة هجرتان"، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب الحبشة يسألوني عن هذا الحديث وهم أفرح به وأعظم.

هذه هجرة العزة وهجرة الإيمان وهجرة الأنبياء، هجرة لوط: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (العنكبوت: 26)، وهجرة موسى ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا﴾ (الشعراء: من الآية 21)، أما هجرة الذلة والهوان التي يعاصرها المسلمون اليوم في العراق، وفي فلسطين والبوسنة وفي غيرها من البلاد الإسلامية، فلا أظنها إلا هجرةَ المسكنة والقهر والفرار الذي لا يكون معه إلا الهوان، فهل يأتي اليوم الذي يهاجر الناس فيه هجرةَ عزٍ إلى الله ورسوله؟!.. نسأل الله ذلك.

 

 

أضف تعليقك