• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم.. عماد الدين السيد

عندما نرى اليوم تسابق مشايخ الحركة الوهابية في النفاق ومباركة قرارات السلطة حتى لو كانت ظالمة أو فاسدة، فإننا نتذكر الحكاية الشهيرة التي سمعناها من هؤلاء المشايخ أنفسهم عن صمود الإمام أحمد بن حنبل في مواجهة الخليفة المعتصم في فتنة خلق القرآن.

حكى لنا هؤلاء المشايخ الحكاية باعتبارها حكاية انتصار عقيدة أهل السنة على عقيدة المعتزلة، رغم أن المغزى من الحكاية أبعد عن هذا وأعمق. فهذه الحكاية تصف مواجهة فريدة بين الدين والدولة، وإصرار عالم الدين فيها على رأيه رغم معرفته بالتبعات والعواقب الوخيمة التي ستصيبه جراء هذا الإصرار.
 

ربما تكون إجابة الإمام أحمد على مسألة خلق القرآن أصلاً إجابة غير مقنعة، وربما نعتبرها تهرباً من السؤال نفسه، لكن ما يلفت الانتباه هو ذلك الصمود في مواجهة الدولة وتحمل التبعات مهما كانت.

بدأ الأمر بسؤال مثير من المسيحيين للمسلمين عجز المسلمون عن الإجابة عليه. كان السؤال هو: هل القرآن "كلام الله" مخلوق أم قديم قدم الله؟ أجاب المعتزلة - وكانوا أبرع من يجادل أصحاب الديانات الأخرى وقتها - أن كلام الله قديم. عندها قال المسيحيون إن هذا يعني بالتالي أن عيسى بن مريم قديم، لأن القرآن يصفه بأنه "كلمة الله"، يقول تعالى "وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"، وبالتالي فعيسى يتمتع بصفات الإله كذلك.

هنا اضطر المعتزلة أن يجيبوا أن كلام الله مخلوق، ورغم أن هذا وضعهم في مأزق جديد، وهو أن هذا يعني أن الله قد طرأ عليه تغيير، ولكنهم التزموا هذا الرأي. لكن "أهل السنة" رفضوا هذا الإجابة، ورفضوا الإجابة الأخرى بأن كلام الله قديم، ونهوا عن الخوض في هذه المسألة. واستمر الجدل في المجتمع الديني وقتها حول هذه المسألة لكن دون وجود أي أزمة.

ثم تولى الخلافة المأمون، وكان يميل لآراء المعتزلة، فأراد أن يجبر الفقهاء على رأيه، وهنا وقع صدام بين الدين والدولة. فالدولة تريد استخدام سلطتها لإجبار الفقهاء على رأي بعينه. ولما مات في وسط الفتنة تولى الخلافة المعتصم واستمر على مسيرته في إخضاع الفقهاء لرأي الدولة.

معظم الفقهاء وقتها قرروا السلامة، وقالوا بأن القران مخلوق، لكن قرر أحمد بن حنبل أن يصمد في وجه الدولة. لم يكن للإمام أحمد إجابة على السؤال أصلاً كأهل السنة وقتها. كان يقول بأن القرآن هو كلام الله المنزل على نبيه، وهو غير مخلوق وغير قديم، وينهي عن الخوض في المسألة. كان يعتقد أن الإجابة الأسلم هي رفض الإجابتين. والحقيقة أن رأيه يستحق الإشادة لأن المسألة كلها سفسطة كلامية فارغة في رأيي ولا تستحق الاهتمام أصلاً.

عندما وقف الإمام أحمد في مواجهة الخليفة المعتصم ليسأله الأخير عن رأيه في مسألة خلق القرآن، كان يمكنه أن يؤثر السلامة ويقول إن القرآن مخلوق، ويبرر لنفسه فعلته هذه بأنه مُكره ولكن قلبه عامر بالإيمان. لكنه قرر أن يواجه الدولة مهما كان الثمن. والثمن كان فادحاً بالفعل، والتعذيب كان قاسياً ولكنه تحمله بكل شجاعة.

يتحدث البعض اليوم عن أن العديد من مشايخ الحركة الوهابية مجبورون على ما يقولون من تأييد لقرارات ظالمة في دولة فاسدة وظالمة. ولكن السؤال هو مادام بإمكان بعضهم الرحيل والعيش في دول أخرى، وهم قادرون مادياً على ذلك، ويمكنهم تسجيل دروسهم الدينية على موقع يوتيوب مثلاً، فلماذا لا يهاجرون بالفعل؟

ولا نطلب منهم المعارضة، بل نطلب منهم الصمت عن الحديث في السياسة تماماً.

اعتزل أرض الفساد ما دمت غير قادر على مواجهته. أليس من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه؟! هاجر إذن وارفض بقلبك كل هذا المنكر بدلاً من البقاء والتطبيل له بحجة أنك مرغم.

المشكلة أن الإمام أحمد بن حنبل صمد من أجل قضية فلسفية عقيمة لا معنى لها، لكن المشايخ حالياً يصمتون عن فساد وسفك دماء كبير.

هاجر، ولن ينقص الدين شيئاً إن أنت توقفت عن الكلام لبعض الوقت يعني. وكم من رجل وامرأة تركوا بلادهم هرباً من سلطة قمعية ظالمة وهرباً من النفاق.

ولكننا سنعطي لكل إنسان عذره.. وسنعتبر أنهم لسبب ما غير قادرين على مواجهة الدولة، وغير قادرين على الهجرة، وغير قادرين على الصمت.. فهل يمكن إذن أن نطلب منهم فقط أن يتوقفوا عن ترديد حكاية الإمام أحمد بن حنبل، لأن الأمر صار مستفزاً بحق.

 

أضف تعليقك