• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

وائل قنديل

يشكو الدكتور محمد البرادعي من مناخ الشيطنة والتخوين على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو محقٌّ في ذلك، بل يتطلب الموقف الأخلاقي الرفض المطلق لهذه الموجات الشريرة التي تهدف إلى تسميم الفضاء السياسي المصري، أكثر مما هو مسمّم.

دفع هذا الأمر الدكتور البرادعي إلى حظر نحو أربعين ألف حساب على موقع تويتر لتُضاف إلى عشرات الآلاف من الحسابات الأخرى، حظرها الرجل، لأنها تمارس نهشًا وطعنًا وتشويهًا في المختلفين معها سياسيًا وفكريًا، وهذا، أيضًا، لا يستطيع أحدٌ أن يلومه عليه.

لكن، وتطبيقًا للمبدأ ذاته، من الواجب أن نرفض كل أنواع السموم الأخرى، وخصوصا التي تستهدف تسميم الذاكرة القريبة وتلويثها، ذاكرة ثورة يناير 2011، ومحاولة شيطنة بعض أطرافها وتخوينهم، لصالح أطرافٍ أخرى، كان لها إسهامها، كما كانت لها أخطاؤها، بالقدر ذاته، وبالفداحة ذاتها.

غير أن الصادم أنه في الوقت الذي يتصدى فيه البرادعي لسموم الشيطنة الإلكترونية، فإنه يمارس ترويجًا، على حسابه، لسموم توثيقية، تخوّن الذين تختلف معهم سياسيًا وفكريًا، من الأطراف المشاركة في هذه الثورة، وتقصيهم وتشيطنهم. من ذلك فيلم تسجيلي قصير، مدته لا تزيد عن عشر دقائق، يُظهر ثورة يناير كأنها كانت ملكية خالصة لتيارات وشخصيات بعينها، ويتناول أطرافًا أصيلة فيها وكأنها كانت من أعداء هذه الثورة، والمتآمرين عليها والخائنين لها، وخصوصا تيار الإسلام السياسي، وفي القلب منه جماعة الإخوان المسلمين.

لا يماري أحد في أن للإخوان أخطاء كارثية في حق الثورة، وقد سبق لكاتب هذه السطور تسجيلها وتوثيقها، صحافيًا وتلفزيونيًا، في حينها. وبعد ذلك في مناسبات عدة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن "الإخوان" وقوى الإسلام السياسي كانوا شياطين، فيما كان الآخرون ملائكة بأجنحةٍ تحلق فوق ميادين الثورة.

الأسوأ أن الفيلم الذي ينشره البرادعي، من ذكريات الثورة، يقفز بخفّةٍ على جرائم كاملة، في استهانةٍ شديدة، تقترب من عمليات الاحتيال التوثيقي، مثل موقعة الجمل، وصولًا إلى مذبحة القرن في ميدان رابعة العدوية، والتي حصدت أرواح آلاف المصريين، بتواطؤ من أصحاب الفضيلة الثورية، وما سبقها من تسليم ثورة يناير لأعدائها، نكاية في بعض أهلها الذين اختلف معهم صنّاع الفيلم، ومن ثم قرّر إضرام النار في أي دور لهم، وتقديمهم على أنهم مجموعة من الخونة، لينتهي بالعبارة الشهيرة، المثيرة للضحك والأسى: يسقط كل من خان ..عسكر، فلول، إخوان، بينما أصحاب هذا الشعار هم أصحاب القداسة والفضيلة والفضل.

وبما أن الشريط المُحتفى به من البرادعي ينسف أي صلة قرابةٍ بين "الإخوان" والإسلاميين وثورة يناير، فإنه يصبح واجبًا تنشيط الذاكرة، مجدّدًا، بما كان من حضور لهؤلاء المغضوب عليهم في ثورة المصريين، بالتنسيق والتعاون مع البرادعي شخصيًا، في إطار المشروع الوطني للتغيير، وهو ما سبق لي الكتابة فيه، في مثل هذا الوقت، تقريبًا، من يناير 2017، حين خرج البرادعي بحديثٍ تلفزيوني، ينفي فيه صلته بالإخوان، قبل الثورة وفي أثنائها.

لن أفيض في تكرار قصة المليون توقيع على بيان التغيير التي قتلت بحثاً وسرداً، وقد قلت، غير مرة، إن جولة سريعة على "غوغل" و"يوتيوب" ستأتي بشهاداتٍ عديدةٍ عن الدور المحوري لجمهور "الإخوان" في نجاح ثورة يناير في الصمود أمام نظام مبارك، وإجباره على الرحيل.

هل فعلاً لم ينسّق البرادعي مع "الإخوان"؟ تقول الوقائع الثابتة إن قياديين بارزين في جماعة الإخوان، هما الدكتور محمد سعد الكتاتني والدكتور عصام العريان، تم اعتقالهما إثر لقائهما البرادعي في منزله، عقب عودته من فيينا، استباقاً لجمعة الغضب 28 يناير/ كانون الثاني 2011. ولو وضعت في الاعتبار أن البرادعي حريصٌ جداً ومتحفظٌ للغاية، إلى درجة الوسواس، في استقبال ضيوفٍ في منزله، فإن المنطقي إن الكتاتني والعريان ذهبا إليه بناءً على موعد وترتيب مسبق للنقاش والتنسيق في إدارة الغضب الذي سطع يوم الخامس والعشرين من يناير، والذي تمدّد وانتشر في الأيام التالية.

هناك أيضًا سردية أخرى لما جرى، دوّنها الدكتور عصام العريان على صفحته الشخصية، ثم نشرها في مقالٍ في صحيفة الأخبار اللبنانية، كتب فيها:

"كان الدكتور البرادعي قد حسم موقفه، وأعلن من فيينا أنه فى طريقه إلى القاهرة، وطلب لقاء الإخوان، فقرّر مكتب الإرشاد أن أذهب، بصبحة أخي العزيز الأستاذ الدكتور محمد سعد الكتاتني، للقائه ليلة الجمعة فى التاسعة مساءً، واتفقنا على أن نلتقي في بيت الدكتور البرادعي، وهو اللقاء الذي استمر إلى ما بعد منتصف الليل، وكانت تحضره قيادات الجمعية الوطنية للتغيير، منهم الأستاذ الدكتور عبد الجليل مصطفى والأستاذ الدكتور محمد أبو الغار، وشباب حملة البرادعي مصطفى النجار وعبد المنعم إمام ومدير موقعه على "تويتر".

أخيرًا، ما كنت أتمنّى الخوض في ذلك مجددًا، لولا أن بعضهم يصرّ على استدعاء منطق الإقصاء، كلما اشتدت الحاجة للوحدة، تفلتًا من مسؤولياتٍ أخلاقيةٍ تجاه ثورةٍ لم يرحمها أحد.

 

 

أضف تعليقك