• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200).


الصبر وأنواعه

وعدتك أخي أن أتحدث إليك عن الصبر، فالصبر خلُق كريم يقوم بالنفس، فتحتمل المشاق، وتغالب المصاعب، وترضى بمقاومة الميول والعواطف والأهواء، وهم يقولون: الصبر في مواطن كثيرة؛ فمنها الصبر على الشدائد والنكبات، ومنها الصبر على أداء الواجبات ومزاولة الطاعات، ومنها الصبر على الحرمان من لذائد المعاصي والبعد عن تناول الشهوات، ومنها الصبر حين البأس، وقد التقى الجمعان وحمي الوطيس، وكشرت الحرب عن نابها، وشمرت عن ساقها، وهو في كل هذه المواطن خلق كريم.

 

وليس منه أن تصبر على الإهانة تَنال من أمتك، أو تَنقص من كرامتك، أو تَهتك من سترك، أو تَمس عرضَك، فقد وصف الله المؤمنين فقال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ (الشورى: 39).

 

الصبر وليد الإيمان وقرين الرجولة

والصبر الذي علمتَه آنفًا وليدُ الإيمان وثمرةُ معرفة الله- تبارك وتعالى- وتفسير الآية الكريمة: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (الأحزاب: 36)، وهو الذي حدا بمؤمن آل فرعون أن يقول: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (غافر: 44)، وهو أيضًا قرين الرجولة الصادقة وخدن الإباء والشمم، فكم من مصيبةٍ صغَّرتها الرجولة، ونائبةٍ تضاءلت أمام عظمة الإباء، ومقامٍ ضيقٍ فرَّجته الأنفة من الجزع!! ولقد ضاق الأمر بأحد القواد وهمَّ بالفرار، وعَظُم عليه الأمر في إحدى المواقع فما ثبَّته إلا أبيات ابن الأطنابة:

 

أبت همتي وأبى بلائي                   وأخذي الحمد بالثمن الربح

وإقحامي على المكروه نفسي           وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت            مكانك تحمدي أو تستريحي

لأدفع عن مآثر صالحات              وأحمي بعد عن عرض صحيح

 

والصبر من لوازم العقل، ومن نتائج حسن النظر في الأمور، فما دام الجزع لا يرد فائتًا ولا يحيي ميتًا ولا يغير من الواقع شيئًا فأخلق بالعاقل أن يتحمَّل ويتجلَّد، وإليه الإشارة بقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في كتاب له إلى معاذ بن جبل يعزِّيه في ابن له تُوفي ما معناه: "إن ابنَك كان من عواري الله المستودعة لديك، وقد استرد الله وديعته، وكتب لك إن صبرت عظيمَ الأجر؛ فلا يجتمعن عليك مصيبتان: فقد الابن وفقد الأجر".

 

نظر العارفين إليه

والعارفون يرون الصبر وسيلةً إلى رفع الدرجات، وامتحانًا ينتقل به الصابر من منزلة إلى أخرى أرقى منها وأعظم، فهم لا يعرفون الجزع ولا يدركون معنى الفزع.

 

لا تهتدي نوب الزمان إليهم                    ولهم على الخطب الشديد لجام

 

وهم يرون البلايا والمحن والفاقات وسائل العطايا والمنن ورفع الدرجات، ويعتقدون أنها أقل برهانًا يعرب به المحب عن حسن استعداده للقرب، ويقول قائلهم في ذلك- يخفف ألم البلاء عليك- علمك بأنه تعالى هو المبتلي لك؛ فالذي واجهتْك منه الأقدار هو الذي أشهدك حسن الاختبار، وما أحسن قول منشدهم:

 

تلذ لي الآلام إذ أنت مسقمي                     وإن تمتحني فهي عندك صنائع

 

الصبر في السنة

(وبعد).. فالصبر مفتاحٌ من مفاتيح الخير، تتنزل به كنوز الأجر الجميل، وسحابةٌ من سحائب الرحمة تمطر الثواب الجزيل، وقرضٌ جزاؤه أجمل العوض، وما عندكم ينفد وما عند الله باق.. وإليك شواهد ذلك من حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم:

 

1- عن أم سلمة زوج النبي صلي الله عليه وسلم أنها قالت: سمعت رسول الله- صلي الله عليه وسلم- يقول: "ما من مصيبة تصيب عبدًا فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.. اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها إلا أخلفه الله خيرًا منها" قالت أم سلمة: لما توفي أبو سلمة عزم الله لي فقلتها.. اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، فأخلف الله لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم.

 

2- و عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من يرد الله به خيرًا يصب منه".

 

3- عن أبي سعيد الخدري عن أبي هريرة- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم- حتى الشوكة يشاكها- إلا كفَّر الله بها من خطاياه".

 

4- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: "جاءت امرأةٌ بها لمم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي أن يشيفيني.. قال: إن شئت دعوتك الله أن يشفيك، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك، قالت: أصبر ولا حساب عليَّ".

 

5- عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أعظم الجزاء عند الله مع عظم البلاء، فإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط".

 

6- عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا للمؤمن، إن أصابه خيرٌ حمد الله وشكر، وإن أصابته مصيبةٌ حمد الله وصبر؛ فالمؤمن يؤجر في كل أمره حتى يؤجر في اللقمة يرفعها إلى فيِّ امرأته".

 

7- عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة".

 

وحسبك في هذا المعنى قول الله- تبارك وتعالى-: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: 10).

 

الصبر عند السلف

لهذا أيها الأخ الكريم كان أسلافنا- رضوان الله عليهم- أعظم الناس صبرًا في كل حال؛ يصبرون عند الشدائد، وعند الوقائع، وعند لذائذ الشهوات، وعلى متاعب الواجبات، وفي حديث أم سليم وعروة بن الزبير والخنساء بنت عمرو وصفية بنت عبد المطلب، وما أُثر عن الجميع من محاسن الصبر واحتمال الضر ما يكشف عن جمال هذه الخلائق الغرّ.

 

وإذا علمت أن الصبر أول اللبنات القوية في بناء الأمم الناهضة علمت السر في أن الله- تبارك وتعالى- فرضَه على المؤمنين وأمرَهم به وأثابهم هذا الثواب الجميل عليه؛ فلا نهوضَ إلا بعزيمة، ولا نصرَ إلا مع الصبر.

 

بين المصابرة والمرابطة

وليس يكفي المؤمن أن يكون صابرًا فحسب بل عليه أن يصابر، والذي يلوح لي في المصابرة أن الله- تبارك وتعالى- يأمر الأمة المسلمة أن تكون أشد الأمم تمسكًا بهذا الخلق، وألا تغلبها أمة عليه أيًّا كانت؛ فبرود الإنجليز ومثابرة الألمان بعض ما يدخل في معنى المصابرة التي يجب أن يتصف بها المؤمن بحكم قوله تعالى: ﴿وَصَابِرُوا﴾.

 

أفهمت أيها العزيز؟!

 

أما المرابطة فذلك شأنه هو التمرين التطبيقي العملي على الصبر الخلقي النفساني، وفقنا الله وإياكم إلى العلم والعمل.

--------------

* سلسلة من تراث الإمام البنا (خواطر من وحي القرآن)- للأستاذ جمعة أمين يرحمه الله

سبق نشره في إخون أون لاين باريخ 05/06/2005

أضف تعليقك