• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: سليم عزوز 

أما "الباشا" فهو آخر "باشوات" مصر الراحل فؤاد سراج الدين، رئيس حزب الوفد الجديد ومؤسسه، أما المناسبة فهي أعياد الشرطة، والتي تحتفل بذكرى موقعة الإسماعيلية، في ظل حكومة الوفد، وقبل انقلاب حركة ضباط في سنة 1952 بستة شهور!

كان "فؤاد باشا" مدنياً، ولم تعرف مصر قبل حركة ضباط الجيش اختراع أن يكون وزير الداخلية ضابطاً، لكن الضباط الذين غيبوا السياسة، وألغوا الأحزاب، ارتاحوا لفكرة الحكومة التكنوقراط، من أساتذة الجامعات وغيرهم. وعلى أثر هذا، كان وزير الحربية ضابط جيش، ووزير الداخلية ضابط شرطة، بعد المرحلة الأولى التي تولى فيها عبد الناصر نفسه منصب وزير الداخلية. وقد عاد الأمل من جديد يحدونا بوقف هذا التقليد مع ثورة يناير، وكانت وزارة الداخلية الجريحة مهيأة لذلك، وتم ترشيح المستشار زكريا عبد العزيز رئيس نادي القضاة السابق لهذا المنصب في بعض الكتابات وبعض التوقعات، لكن لم تتحمس لهذا الاختيار بعض فصائل الثورة، فترك الأمر بيد المجلس العسكري "الحاكم"، فاستمرت نفس السياسة، فكل طلبات العسكر كجهة حكم حصلوا عليها باقتحام مقار أمن الدولة والحصول على المستندات التي تخصهم!

حقيقة ما جرى

في يناير من عام 1952، كان الخناق يضيق على الاحتلال الإنجليزي لمصر، وقد توقف العمال المصريون عن بناء معسكرات قوات الاحتلال في مدن القناة، وانسحبوا من هذه المهمة، واشتدت أعمال التخريب والمقاومة ضد المعسكرات القائمة، وقد اعتبر الاحتلال أن كل هذا يجري بتحريض من قوة البوليس في قسم الشرطة الخاص بالإسماعيلية، فكان أن أنذرتها قوات الاحتلال بمغادرة المنطقة وتسليم السلاح، لكن قائد مجموعة البوليس اتصل بوزير الداخلية "المدني" فؤاد باشا سراج الدين، ولما اطمأن منه على استعداد الضباط للمواجهة رغم قلة العدد، كان الأمر بالمقاومة وعدم الانصياع لطلب  قوات الاحتلال، وهو ما حدث بالفعل!

احتشد المحتل بقوة تعدادها سبعة آلاف شخص، مجهزين بالأسلحة الثقيلة في مواجهة أعداد قليلة من رجال الشرطة ومعهم عددامن المواطنين المصريين، وكانوا مسلحين بأسلحة عادية، لم تخرج عن المسدسات والبنادق. وكان طبيعيا أن يرتفع في هذه المعركة بعد ساعتين من القتال، إلى خمسين شهيداً، وثمانين جريحا من ضباط الشرطة وجنودها، في معركة خاسرة بحساب الأرقام، لكنها معركة الانتصار الكبير في ميزان الوطنية، فالجنود قاتلوا ببسالة، وتصدوا للعدوان بقوة، ولم يستسلموا إلا بعد نفذت الذخيرة بالكامل!

ولم تجد الشرطة المصرية في تاريخها أفضل من هذا اليوم لكي تتخذه عيداً لها، ولكن في زمن الانبطاح، كان يتم دائما الابتعاد عما جرى في هذه الملحمة الوطنية، فلا تاريخ يُذكر، ولا دلالة يستفاد منها، كما يفعل السيسي سنويا مع أعياد تشرين الأول/ أكتوبر، فلا يذكر على من انتصرت مصر وكأنها انتصرت في جهاد النفس، وكأنه عيد كغيره من الأعياد التي اخترعها المصريين ونسوا صلتها بالتاريخ، وكأنه "عيد شم النسيم" مثلاً، فاستدعاء الدلالة الوطنية في زمن الخيانة، يضر بمشروع الحكام الذين يروجون للهزيمة باعتبارها قدراً.

جنازة النحاس

ثم إن ربط هذا العيد بالتاريخ، ليس في صالح النظام الذي كان يحكم مصر قبل ثورة يناير، فسراج الدين ينتمي للعهد البائد بحسب خطاب ضباط الجيش، وقد حاصروه حتى يموت بالحياة، لكن كل من تآمروا عليه انتهوا وعاد هو قوياً يرأس حزب الوفد الجديد، فيحدث ذعراً لأهل الحكم. والوقوف عند عيد الشرطة بربطه بتاريخ ملحمة الإسماعيلية من شأنه أن يمثل رداً للاعتبار لهذا الرجل. وقد انتظر "حبيب العادلي"، وزير داخلية مبارك، الوقت المناسب ليضرب ضربته، وكانت الفرصة بوفاة فؤاد سراج الدين!

في أول احتفال في العام الذي مات فيه فؤاد سراج الدين، كان "العادلي" يصطحب المؤرخ "يونان لبيب رزق" إلى أكاديمية الشرطة ليشهد الاحتفال.. و"يونان" كانت الدنيا قد بدأت تضحك له مؤخراً بوفاة المؤرخ المعتمد لدى أهل الحكم الدكتور "عبد العظيم رمضان"، فبدا ميمونا لهذا التقريب الحكومي له، وتحويله إلى "كاتب في الأهرام"، وتعيينه عضواً في مجلس الشورى، وبدا مستعداً لأن يوظف التاريخ لصالحهم، وها هو الوزير يطلب منه خدمة تاريخية، وتمثلت هذه الخدمة في تزييف التاريخ، لرفع الحرج الذي يمثله اختيار 25 يناير عيداً للشرطة، واتصال هذا بوزير الداخلية "المدني" فؤاد باشا سراج الدين!

كان "العادلي"، وخدمة لسيده مبارك، قد أفسد قبل عدة شهور جنازة "فؤاد باشا"، في مرحلة انتبه فيها النظام لما تمثله شعبية الجنائز من دلالة ورمزية سياسية، فعبد الناصر بعد تغيبه للنحاس الباشا رئيس الحكومة الوفدية في منزله رهن الإقامة الجبرية ثماني سنوات، فوجئ بجنازته وقد شارك فيها أكثر من مليون شخص، رغم تشويهه في الاعلام، على النحو الذي دفعه ليتساءل في بلاهة: بعد كل هذا العمر لا يزال الناس يذكرون النحاس؟! وحدثت أغرب عملية اعتقالات، إذ تم القبض على عدد كبير من المشيعين والتهمة المشاركة في تشييع جنازة النحاس!

وفي بداية عهد مبارك تحولت جنازة عمر التلمساني إلى مليونية مكتملة الأركان، ومن بعدها لم تشيع جنازة أي مرشد للإخوان بشكل طبيعي، ثم جاء عهد حبيب العادلي، لتضع الأجهزة الأمنية ما يُعرف بسقف الشهرة، فلا يجوز أن تبلغ شهرة أحد سقفا بعينه يتجاوز شهرة الرئيس وآل بيته، باعتبار أن أي مشهور ولو في مجال الخطابة والدعوة يمكن أن يمثل خطراً محتملاً على نظام الحكم، فطال التغييب الأمني شخصية كعمرو خالد، والحبيب الجفري (الخوف من شهرته له بعد آخر مرتبط بالإحساس الأمني في هذه الفترة بالخطر المحتمل للطرق الصوفية)!

لقد تزيد "العادلي"، فلم يسمح لجنازة الشيخ الشعراوي أن تنطلق من القاهرة، وتم نقلها لمسقط رأسه في إحدى القرى، وطلب من أسرة الشيخ كشك أن يدفنوه سراً، وعندما مات فؤاد سراج الدين، طلب عدم الخروج بجنازته من مسجد عمر مكرم بوسط القاهرة، حتى لا يكون المشهد مذكراً بجنازة "النحاس باشا"، ورفض الوفد وأصر على أن يصلى عليه في عمر مكرم، وأعد حبيب العادلي العدة لإفساد الجنازة، وكان يجلس في سيارته غير بعيد؛ يراقب الأمر، وما أن خرجت الجنازة من المسجد حتى كان النداء بالاقتحام وتدنيس حرمته. وتم الاعتداء على المشاركين بهروات الشرطة، ولم يسلم من الاعتداء شيخ الأزهر ذاته!

الشهادة الزور

وكانت الضربة الثانية في الاحتفال بأعياد الشرطة وعلى لسان المؤرخ، يونان لبيب رزق، الذي مات سريعاً ولم يهنأ بسنوات الغرام!

لقد قال "رزق" إن فؤاد سراج الدين أخبره قبل وفاته بأنه لم يكن له دور في موقعة الإسماعيلية، وأن قائد البوليس لم يتصل به، وبالتالي لم يصدر له الأمر بالصمود، وكانت المفاجأة هي في هذا التصفيق الحاد من الحاضرين ضباطا وطلابا على نحو كاشف عن إحساسهم بأنهم يحملون عبئاً ثقيلا؛ لكون الشرف منسوبا لوزير داخلية مدني وزعيم سياسي بحجم فؤاد سراج الدين، في زمن المسخ، ومن مبارك وابنه وحزبه وحكمه، إلى كائن مطبوع بالدونية كحبيب العادلي!

وقد رد عليه جمال بدوي، رئيس تحرير الوفد السابق، لكن كنت قد سبقته بالرد، في مقال نشر في "الأحرار"، وقد سألته إن كان فؤاد باشا أخبره بذلك، فلماذا لم يعلنه في حياته؟ ولماذا ظل سراج الدين في كل عام يستقبل التهاني بأعياد الشرطة باعتباره بطل هذا اليوم؟

منذ هزيمة ثورة يناير في عام 2013، بإعلان الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي، والاحتفال بأعياد الشرطة يأخذ بعد التشفي في ثورة يناير، في حين أن الثوار ينطلقون في التذكير المكثف بأنه يوم الثورة وليس يوم الشرطة التي هربت في هذا اليوم. وأقول: نحن أولى بأعياد الشرطة من عبد الفتاح السيسي!

فهذا اليوم جسد العزة الوطنية، والحاكم العسكري قلص من مهامه الوظيفية، ليكون مجرد مسؤول عن أمن إسرائيل!

وهذا اليوم ملحمة وطنية دفاعا عن التراب الوطني، والحاكم العسكري هو المفرط في تيران وصنافير!

وهذا اليوم كان بطله الضابط الصامد دفاعاً عن الوطن، وليس الضابط الخادم لسلطة ليست معنية بالوطن!

وهذا اليوم هو نتاج الحكم المدني، وليس من إنجازات الانقلاب العسكري.

وفي هذا اليوم كان وزير الداخلية مدنيا.. ولم يكن شرطياً!

إن عيد الشرطة، هو عيد لمصر الحرة، التي مثلتها ثورة يناير أفضل ما يكون التمثيل!

ألا شاهت الوجود.. ألا شاهت الوجوه!

 

أضف تعليقك