• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: اللواء عادل سليمان

كانت الحرب العالمية الأولى، في العام 1916، قد قاربت على النهاية، وأصبح واضحا أن النصر سيكون إلى جانب الحلفاء. وباتت نهاية دولة الخلافة العثمانية أمرا محتوما، وكان ما يشغل الحلفاء، وبالتحديد بريطانيا وفرنسا، كيفية اقتسام الإرث العربي مترامي الأطراف للدولة العثمانية، خصوصا فى منطقة الهلال الخصيب في الشام والعراق، وجاءت الإجابة فيما عُرف باتفاقية سايكس - بيكو في مايو/ أيار في ذلك العام. وهي الاتفاقية التي قسمت المشرق العربي إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية، بعد إنشاء دول ودويلات قُطرية، وتركت منطقتين فقط من دون تحديد واضح، الجزيرة العربية وفلسطين. ما يعني أن لكل منهما وضعا خاصا، فالجزيرة العربية كانت تضم الحجاز، وكان يتولاها الشريف حسين، شريف مكة، والذي كان يطمح إلى انتزاع الخلافة الإسلامية من العثمانيين، وهي الفكرة التي التقطها البريطانيون، ووعدوه بمساعدته على توليه الخلافة الإسلامية، في حال تحالفه معهم في حربهم ضد الدولة العثمانية. وبالفعل أعلن الشريف حسين ما عُرفت بالثورة العربية الكبرى، وحشد قواته بقيادة ولديه، الأميرين عبدالله وفيصل، للقتال إلى جانب القوات البريطانية، فى معاركها الأخيرة لإحكام السيطرة على العالم العربي. وفي الوقت نفسه، كان هناك في الجزيرة العربية طرف آخر، هو عبد العزيز آل سعود، حاكم نجد والعدو التاريخى للعثمانيين، والمنافس الرئيسي للشريف حسين على حكم الجزيرة العربية. وقد أدارت بريطانيا العلاقات معه عبر رجلها الشهير، لورانس العرب، وكانت تُضمر أن تُمَكِّن ابن سعود من حكم الجزيرة العربية كلها، وإبعاد الشريف حسين عنها، نظراً إلى أطماعه في إقامة خلافة إسلامية عربية، وكان مؤهلاً لذلك، باعتباره شريف مكة هاشمي الأصل، بينما لم يكن ذلك ضمن طموحات بن سعود، وهو ما حدث.

ذلك عن الجزيرة العربية، أما عن المنطقة الأخرى التى تُركت غامضة، ومظللة باللون الأسود، على خريطة "سايكس - بيكو"، وهي فلسطين، فقد كانت بريطانيا تُضمر لها مصيراً مختلفاً، وهو ما اتضح، في العام التالي مباشرةً لتوقيع "سايكس - بيكو"، وبالتحديد في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، عندما صدر ما يُعرف بوعد بلفور، وهي رسالة رسمية، صدرت عن وزير خارجية حكومة الحرب البريطانية، آرثر جيمس بلفور، موجهة إلى اللورد اليهودي روتشيلد، تتضمن قرار تلك الحكومة أنها تدعم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وكان ذلك قبل دخول قوات الجنرال اللنبي القدس، بدعم من الفيلق العربي الذي كان يقوده الأمير عبد الله بن الحسين، وإعلان الاحتلال البريطاني لفلسطين، وزوال السيادة العثمانية عن كل ولاياتها، وذلك في 11 ديسمبر/ كانون الأول 1917.

انتهت الحرب العالمية الأولى، وانهارت دولة الخلافة العثمانية، وأصبحت كل فلسطين التاريخية تحت الاحتلال البريطاني، وما لبثت بريطانيا أن وضعت فلسطين تحت الانتداب في يوليو/ تموز 1920، وهو ما أقرته عصبة الأمم، وأصبح في مقدورها أن تفي بوعد بلفور بشكل عملى، وهو ما استغلته الحركة الصهيونية العالمية، والوكالة اليهودية، بتنظيم موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، على نطاق واسع، وإقامة وتنظيم المجتمع اليهودي بكل مؤسساته السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والثقافية، على الأرض الفلسطينية، حتى جاءت اللحظة المناسبة، عندما أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين في 14 مايو/ أيار 1948، وفي اليوم التالي مباشرة، أعلن بن غوريون، مسؤول الوكالة اليهودية في الداخل الفلسطيني قيام دولة إسرائيل.

هكذا كان وعد بلفور حجر الزاوية في نشأة الكيان الصهيونًي على الأرض الفلسطينية. ويكفي أن نعرف أن الحركة الصهيونية، ووكالتها اليهودية، قبل صدور وعد بلفور والاحتلال البريطاني لفلسطين، لم تكن موجات الهجرة اليهودية التي نظمتها إلى الأراضي الفلسطينية، والتي بدأت فى العام 1882، قد تجاوزت 30 ألف مهاجر، بينما تمكنت، بعد وعد بلفور وحتى انتهاء الإنتداب البريطاني وإعلان قيام دولة إسرائيل، من تهجير قرابة 600 ألف يهودي.

وقد يتبادر إلى الذهن تساؤل مشروع بشأن العرب، أصحاب الأرض وأصحاب الحق: أين  كانوا عندما أعطى من لا يملك حقاً في أرضهم لمن لا يستحق؟ وخلال بناء الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية؟ أين كانوا خلال تطور ذلك الكيان، حتى فرض وجوده على الأمة العربية، بل وحصل على اعتراف رسمي من أكبر دولها؟ ونحن نحاول الإجابة، بشأن ما جرى في أكثر من مائة عام منذ صدر وعد بلفور، إذا بنا أمام طرح جديد، وهذه المرة ليس في شكل وعود، ولكن فى شكل منح سخية تأتي إلى إسرائيل، والتي لا تستحق، من قوة أيضاً، لا تملك، وهي الولايات المتحدة الأميركية، ورئيسها دونالد ترامب.

بدأت المنح، بقرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل في 6 ديسمبر/ كانون الأول 2017، ونقل سفارة أميركا إليها، ثم أعقبت ذلك إجراءاتٌ تعسفية بسحب تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا)، وإيقاف الدعم المالي للسلطة الفلسطينية فى رام الله، عدا ما هو متعلق بالتنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي. ثم جاءت المنحة الكبرى الأخرى، الاعتراف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، واعتبارها من حق دولة الاحتلال، في سابقة تاريخية للخروج على القانون الدولي والقرارات الدولية، وذلك في 25 مارس/ آذار 2019.

وفي السياق نفسه، لن تتوقف المنح الأميركية عند ذلك الحد، كما لوّح نتنياهو، في حملته الانتخابية، بأنه يعتزم إعلان المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية تحت السيادة الإسرائيلية، بمباركة أميركية. وذهب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، إلى أكثر من ذلك، عندما توقع، في كلمته أمام القمة العربية في تونس أخيرا، أن يقدم ترامب منحته الجديدة إلى إسرائيل في شكل اعتراف أميركي بسيادة إسرائيل على كامل الضفة الغربية، والاعتراف بغزة فقط وطنا للفلسطينيين، وهكذا تتم تصفية القضية الفلسطينية.

أين كان العرب، وماذا فعلوا، منذ صدر وعد بلفور؟ وماذا عليهم أن يفعلوا، بعد أن بدأت مِنح ترامب؟ عندما صدر وعد بلفور، كان أبرز زعماء العرب، شريف مكة، حسين بن علي، قد تحالف مع بريطانيا، وأعلن الثورة الكبرى ضد الدولة العثمانية، بينما دخلت باقي الشعوب العربية، فى متاهة التقسيم طبقا لخريطة سايكس – بيكو، المتاهة التي أفاقت منها على إعلان قيام دولة إسرائيل. وما أعقب ذلك من جولات صراع عسكري خاسرة في 1948، و1956، و1967، وكانت خاتمتها في حرب أكتوبر 1973. وعلى الرغم من الإنجاز العسكري الملموس الذي تحقق على العدو الإسرائيلى فى تلك الجولة، انتهى الأمر بما تعرف بعملية السلام البائسة التي كرّست الوجود الإسرائيلي، بل وأكسبته شرعية، ثم كان تهافت أنظمة عربية إلى إقامة علاقات مباشرة، أو غير مباشرة، مع إسرائيل، سعيا إلى كسب دعم أميركي لتلك الأنظمة.

السؤال الأكثر أهمية: ماذا على العرب أن يفعلوا في مواجهة تلك الهجمة الصهيوأميركية، الشرسة، المتمثلة فى مِنح ترامب المتتالية، وإجراءات حكومة العدو الإسرائيلي التوسعية على الأرض، على حساب الشعب الفلسطيني؟ من يملك الإجابة هي الجماهير العربية، عندما تمتلك إرادتها الحرّة، وتُعلى قيم المقاومة فوق مصالح النُخب السلطوية الحاكمة.

أضف تعليقك