• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم : سَليم عزوز

لم يتوقف الحُكم العسكري في مصر، بنسخته الرديئة، عن الإضرار بسمعة البلاد، وإهانة المصريين بشكل غير مسؤول، ولن تكون آخر إساءاته ما جرى في الأيام الثلاثة للاستفتاء، وكأننا نشاهد مصر أخرى غير التي وُلدنا وعِشنا فيها، فمِن أين جاء هؤلاء الناس؟!

بدَت مصر وكأنها ألقت ما فيها وتخلّت، واختفَى شكلها الحضاري باستدعاء الحُثالة، أو ما يُطلق عليهم في أدبيات اليسار «البروليتاريا الرثّة»، للقيام بمَشهد انتخابي مهين، على نحو يكاد أن يُنسينا تقاليد العمليّة الانتخابيّة، وكأن مصر دولة في طور الإنشاء، وكأنها لم تعرف الانتخابات والتصويت عليها إلا هذه الأيام فقط، وكأن البشرية كلها في مرحلة النشأة والتكوين لم تخترع بعد الانتخابات، ولم ترس التقاليد اللازمة لذلك؟!

مصر عَرفَت الانتخابات والحياة النيابية قبل أكثر من مئة وخمسين عاماً، وإذ انقطع عهدنا بذلك منذ ستين عاماً، بواسطة حركة الضباط، إلا أنها ظلت تراعي الشكل، وإذا كان قد تدحدر الحال بنا في السنوات الأخيرة من عهد مبارك، وعلى يد وزير داخليته حبيب العادلي، أول من استدعى الشبيحة والمسجلات في قضايا الآداب أمام بعض اللجان، فلا أظن أن الانهيار قد وصل إلى مستوى ما يحدث في مرحلة حُكم عبد الفتاح السيسي، وخلال أربع عمليات انتخابية، انحدرت للمشهد الأكثر هبوطاً على النحو الذي وقف عليه العالم كله، وأساء لسمعة مصر في الخارج، وصور شعبها كما لو كان مجموعة من الهمج، بسبب هذا القاع الذي استدعاه الحكم العسكري في نسخته الأكثر رداءة، من الطبعات السابقة!

فهل كانت هذه انتخابات أم سيركاً ينصبه المهرجون، و»مولد» يشارك فيه الدراويش والبلهاء؟، إنه على كل حال ليس مولداً وصاحبه غائب، فصاحبه قائد انقلاب عسكري، أساء بسوء القصد وقصد السوء، إلى عموم الانقلابات العسكرية، ومثّل وصمة عار في جبينها، مع أنها العار بشحمه ولحمه، فمن أين جاء هؤلاء الناس؟!

إنه التساؤل الذي طرحه «الطيب صالح» في رائعته «موسم الهجرة للشمال»، ومن أين جاء هؤلاء الناس، لا تخص فقط الحثالة المستدعاة للقيام بأدوار بهلوانية، وإنما يمتد الأمر إلى الراعي الرسمي لهم، فلو أراد أحد أن يسيء للانقلاب العسكري في مصر، فلن يستطيع أن يفعل كما يفعل الانقلاب في نفسه، والذي لم يتجاوز فقط في حق نفسه وفي حق الانقلابات العسكرية عامة، فالإساءة لحقت بشعب مصر، عندما تكون هذه هي صورة المصريين في الخارج، وهذا هو مبلغ علمهم بالانتخابات والاستفتاءات.. فمن أين جاء هؤلاء الناس؟!

لقد شاهد العالم الصورة المبتذلة أمام اللجان، والرقص الذي صار عنوان المرحلة، ثم إذا بنا أمام مشاهد تمثيلية هابطة، تنتمي لسينما الترسو، التي كانت تستقبل الحثالة بمقابل زهيد، لأنها في الأصل دور سينما قديمة ومتهالكة، تليق بهم ويليقون بها. وصرنا لا نعرف ما هي علاقة الرقص والابتذال بالعملية السياسية في مصر، وقد صارت عنواناً للانتخابات والاستفتاءات في حكم الطبعة الرديئة من الانقلابات العسكرية، وقد أشرف على ثلاثة انتخابات، واستفتاءين، خلال ست سنوات هي مدة حكمه!

هذا المهرجان الهابط هو في الحقيقة تعويضٌ عن حالة العجز وعدم القدرة على النطق المستقيم، فدولة على قمتها من لا يستطيع أن ينتج عبارة واحدة مكتملة، ماذا نتوقع من ناخبيه، حيث يستغل حاجتهم في القيام بهذه الاستعراضات أمام اللجان وفي الشوارع، ليخرجوا للاحتفال بمن أفقرهم، فتكون «كرتونة» من السلع الغذائية لا يتجاوز ثمنها مئة جنيه، مبرراً لهذا الخروج ولهبوط المستوى!

هذا شكل قامت على إخراجه الأجهزة التي تدير الدولة في مصر، وساعدت فيه أحزاب هي صنيعة هذه الأجهزة، وبلا سوابق في العمل السياسي، فالحزب الوطني الحاكم في عهد مبارك، ليس جزءاً من المشهد الحالي. وقد أبلى النواب الحاليون ومن يطمعون في أن يكونوا نواباً في البرلمان القادم من رجال الأعمال بلاءً سيئاً في تشكيل هذه الصورة، فعندما غابت العبارة ظهرت «الكرتونة»، وكيف لنظام هابط إلا أن يكون اعتماده على «البروليتاريا الرثة»، وماذا يملك هؤلاء إلا الاستعراض بالجسم، وماذا يملك القوم من وسيلة للاستدعاء إلا هذا الثمن الزهيد وفق شعار «كرتونة لكل صوت»!

ثم إن الصورة المبتذلة كانت أداة للتغطية على عزوف الناس عن عدم المشاركة في هذا السيرك، فيكون من تم استدعاؤهم بـ «الكرتونة» هم من يتم إيقافهم في طابور لا يتحرك بهدف التقاط الصورة، ثم يستكملون اليوم في «الزفة»، وهي «زفة» لم تنصب أمام جميع اللجان، لكنها جذبت الكاميرات، فلم يكن الخبر في أن اللجان خاوية، ولكن في هذا السيرك المنصوب، وهذا الهبوط الذي وصل للقاع، على قاعدة أن الخبر ليس في أن كلباً عض إنساناً، ولكن في أن يعض الإنسان كلباً.

ويبدو عموماً أنه تم الاتفاق مع حملة الكاميرات، والمعتمدين للتغطية، على التركيز على هذا المشهد الاحتفالي، وكأنهم كانوا يتوحمون على الاستفتاء، أو كأن الاستفتاء اختراع لم تهتد إليه الأمم من قبل!

ومهما يكن، فقد صرنا أمام تقاليد جديدة نسجت على يد الانقلاب العسكري في طبعته بالغة الرداءة، فالأصل في الانتخابات أن تتوقف الدعاية قبل إجرائها، ولا يسمح بوجود الجماهير أمام اللجان، فالانصراف يكون بمجرد الإدلاء بالصوت، دون السماح لمن يدلي بصوته بالانتظار داخل اللجنة إلا بقدر المدة التي ينتهي فيها من مهمته، لكننا شاهدنا استباحة كاملة للجان من داخلها، وفي حضور القاضي المشرف، فهذا عجوز ينتهز الفرصة فيرقص داخل اللجنة، ثم يجد من يقوم بتصويره، وتدخل «سما المصري» لمحيط لجنة الانتخابات بكلبها، ولا يوجد من يوقف هذا التهريج وكأنه صار سمة من سمات المرحلة!

لقد خضت الانتخابات قبل الثورة، وإذا كان بإمكاني بهذه الصفة دخول اللجان، فإن الأمر لا يستدعي أكثر من مصافحة رئيس اللجنة المشرفة، ومن مناقشة بعض الملاحظات السريعة مع المندوب، مع تقديم الاعتذار إن تأخر الوجود لنصف دقيقة، فأي جريمة لحقت بالحياة السياسية في ظل هذه الرداءة غير المسبوقة في التاريخ المصري؟!

إن أخطر ما في الأمر أن يعتاد الناس على هذا السيرك، فيعتبرونه جزءاً من العملية الانتخابية، كما يعتاد الناس على فكرة التوزيع العلني للرشاوى الانتخابية، كما فعل القوم بتوزيع «كراتين» السلع الغذائية على الناس جهراً وفي يوم الاستفتاء مع إعلان شعار المرحلة «كرتونة لكل صوت»!

والأخطر من هذا هو هذه البلاهة التي صارت هي من تحكم، ففي كل انتخابات يمكن أن توزع صورة واحدة، لمعاق، أو لمسن، حرص على الإدلاء بصوته لإثبات الجدية، وتأكيد الاهتمام، لكن في هذه المرة، فإن العشرات على كراس متحركة (البعض شوهد ليس قعيداً)، والعشرات نقلوا بسيارات الإسعاف، وكان الناس يسخرون من صورة واحدة في عموم القطر، فكيف يظن أهل الحكم أن الشعب المصري يمكن أن يُصدق مئات الصور، ثم من هو الطبيب المعالج الذي سمح بخروج مريض من مستشفى أجريت له عملية قلب مفتوح حالاً ليُدلي بصوته، وما هي المسؤولية الجنائية على المستشفى الذي سمح بهذا التهريج إن صحت الروايات وصدقت الصور!

إن الانقلاب العسكري في طبعته الحالية بهلوان ينصب سيركاً ولا يَحكم دولة!

لقد ألقت مصر ما فيها وتخلت!

أضف تعليقك