• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

وائل قنديل

ليست المسألة مقصورة على فئة من يسمّون "رجال الدين"، بل عصفت تلك الانقلابات الفكرية العنيفة، والتحولات الإيديولوجية الصادمة بمثقفين وسياسيين أيضا، قرّروا تغيير الجلد والعظم، بدعوى المراجعات، بعضهم مدفوعًا بانتهازية مقرفة، وآخرون فعلوها خوفًا من بطش سلطة صاعدة، أو طمعًا في عسلها، حتى وإن كان سامًا.

من المهم الإشارة إلى أنه لا مصادرة على حق إنسان في اختيار ما يناسبه من مواقف واعتناق ما يروق له من آراء، فيما يخص التطورات السياسية والاجتماعية في أزمنة التحولات الكبرى، غير أن ذلك كله مرهون بألا يكون باسم الله والشعب، أو بعبارة واحدة: باسم القيم المنشئة لمفهوم الوطن، والثوابت المؤسسة لمفهوم العقيدة.

أيضًا، لا مصادرة على أحد في مراجعاته الفكرية والسياسية، على ألا يكون ذلك تسفيهًا من المشترك العام، وحطًا مما توافق عليه المجتمع، وصار جزءً من الوجدان العام، يرى إلى مرتبة أن يكون واحدًا من قوانين الحياة في هذا المجتمع أو ذاك.

فيما يخص الداعية السعودي، عايض القرني، فإن مراجعاته الفكرية مسألة تخصه، وهي من صميم اختيار الإنسان الحر، أن يعلن، بعد فترة، أن كل ما اعتقده وتحمّس له ودافع عنه باطل وغير مفيد، لكن ما ليس حرًا فيه أن تتحول المراجعة إلى تجارة رخيصة في سوق النخاسة الثقافية والسياسية.. ما ليس من حقه أن يهدم الثابت كي يشتري رضا السلطان.

في ذلك، لا غضاضة أن يتوصل القرني إلى قناعة جديدة ومختلفة بشأن مشروع حياته الذي يسمى الصفوات، لكن أن يصل به الأمر إلى الانتقال من مرحلة نقد الأفكار ذاتيًا إلى التعريض بجوهر العقيدة التي يعتنقها عموم الناس، فهنا الانحطاط بالمبدأ وبالفكرة، وخصوصًا عندما يجدّف القرني في اتجاه التبشير بإسلام ولي العهد السعودي، بديلًا للإسلام الموروث الذي تواضعت عليه الأمة.

فليعتنق القرني "إسلام القنصلية" أو "إسلام ولي العهد" الذي عبّر عن نفسه بأبشع ما يكون التعبير في جريمة الشهيد جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول، كما يشاء، لكن أن يتوجه بخطاب عام عبر منفذ إعلامي للجماهير، مبشرًا بذلك الإسلام العصري الجديد الذي يشيد به الكيان الصهيوني، ويتبنى القادم به، ولي العهد السعودي، بوصفه رأس حربة لمشروع جديد، تهيمن فيه إسرائيل، وتفرض تطبيعها على المنطقة، فهنا المشكلة. وهنا يجب أن يغضب كل غيور على معتقده الديني وانتمائه الوطني والقومي، ذلك أن الشيخ في هذه الحالة ينتقل من المراجعة إلى المرافعة، دفاعًا عن مشروع صهيوني داهم.

وعلى ذكر التحولات والانقلابات الفكرية، يبرز اسم الروائي المصري، يوسف القعيد، معادلًا موضوعيًا لحالة عايض القرني، إذ يتشارك كلاهما في ابتذال الرمز وإهانة التاريخ، والاتجار بالمعتقد، وكما يبتذل القرني مفهوم الدين، من خلال التبشير بدين ولي العهد، يذهب القعيد إلى ابتذال مفهوم النصر وإهانة فكرة المعركة، حين يركب ألواح التزلّف الممجوج ويصف مسخرة ما تسمّى التعديلات الدستورية بأنها العبور الجديد للشعب المصري، ولا يقل بطولة عن عبور حرب أكتوبر/ رمضان قبل 46 عامًا، إذ يكتب القعيد في صحيفة "أخبار اليوم" متسلقًا برشاقة مدهشة تعبير عبد الفتاح السيسي الركيك "جبر الخواطر"، ليقول "لو كانت المساحة تسمح لنشرت قصيدة حافظ إبراهيم: مصر تتحدث عن نفسها.. بعد نجاح المصريين بعبور جديد لا يقل أهمية عن 1973".

هذه المهانة الحضارية والمعرّة السياسية التي شاهدها العالم كله، ورأى كيف يتم سحق كرامة "المواطن مصري" بكرتونة الجيش وفزع الشرطة، كي يساق إلى لجان الاقتراع، قسرًا، كما تساق الذبائح إلى المجزرة، كيف تحولت في عين يوسف القعيد إلى عبور جديد لا يقل أهمية عن عبور 1973؟.

وأي جرأة على التاريخ وعلى الفن والثقافة، وأي إهانةٍ للذات وللمتلقي حين يستدعي الأديب الذي عينوه نائبًا برلمانيًا، من الذاكرة رائعة حافظ إبراهيم وأم كلثوم "مصر تتحدّث عن نفسها" لكي يصف مشاهد الراقصين قهرًا والمصوتين رعبًا والهاتفين دفعًا للبطش والقمع؟.

كيف يكون الإنسان مبتذلًا ومزيفًا إلى هذا الحد، وفي هذا العمر؟.

أضف تعليقك