• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم.. سليم عزوز

لأنها الثورة المضادة، ولأنها تسقى من معين واحد، فقد ظنت أنها في كل مرة "تسلم الجرة"، وأن إجهاضها في مصر بمذبحة رابعة وأخواتها تجربة قابلة للتنفيذ في السودان، فكانت مذبحة القيادة العامة".

في القاهرة أضرموا النيران في الجثامين، وفي الخرطوم ألقوا بالكثير منها في النيل، بعد أن ربط الضحايا بحجارة ضخمة، تمنعها من أن تطفو على سطح الماء؛ وكان الهدف في الحالتين هو إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الجريمة النكراء!

في القاهرة كان الفاعل عسكريا، وفي الخرطوم كان الجاني عسكريا، وأولياء الأمر هنا وهناك في عواصم الثورة المضادة، من الرياض إلى أبو ظبي، لكن في الحالة الأخيرة كانت القاهرة تمثل ولي أمر إضافيا لعسكر السودان، وجاءت تأدية رئيس المجلس العسكري للتحية العسكرية لعبد الفتاح السيسي إشارة لا تخطئ العين دلالتها، وكان سفر نائبه للقاء محمد بن سلمان ووالده، ثم سفره للقاء محمد بن زايد، كاشفا أن مركز القرار واحد، في مواجهة الثورتين: السودانية والمصرية!

كانت المفاوضات مستمرة في مصر برعاية دولية وإقليمية، عندما صدرت أوامر ملك السعودية الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، لعامله على القاهرة بضرورة الفض العنيف لقطع الطريق على المفاوضات، فكان ما جرى، وكانت عودة "برهاني" و"حميدتي" من العواصم الثلاث كاشفة عن أن قرار إنهاء الاعتصام قد صدر، وقامت "مليشيات الدعم السريع" بالتنفيذ. وبلغت المأساة ذروتها، حيث إن الجيش السوداني لم ير في هذا العدوان، أمام بيته، إهانة له، وهو ما يقودنا إلى العودة إلى سبب اختيار مقر "القيادة العامة" مكاناً لاعتصام الثوار!

لقد كان هذا بعد أن بدأت قوات "الدعم السريع"، قبل تنحي البشير، بالاعتداء على المظاهرات، وكان الجيش يتدخل لصد هذا الاعتداء، عندئذ علم السودانيون بمن يقتلهم ومن يحميهم، فكان هذا الاختيار.

لقد حذرت مبكراً من الوقوع في التضليل بالظن أن "الجيش يحمي الثورة".. إنه مجرد صراع طبقي، بين جيش أصيل، وبين مليشيات القتل التي تتحرك بدون غطاء من قيم أو عقيدة، فللجيوش عقيدة، لكن ما هي عقيدة مليشيات القتل والسلب والتدمير؟!

ومن هنا كان اختيار ساحة مقر "القيادة العامة" للاعتصام فيها، ليكون الشعب في حماية جيشه، وكانت هذه الحماية سبباً في تجاوز الثورة السودانية لمعنى أن قيادة الجيش معينة من قبل البشير، فقد عوملت كما لو كانت جزءاً من الثورة، وتم إكرام "حميدتي" ومليشياته والقبول بحسابهم على الجيش السوداني، ما دامت هذه رغبة "برهاني" كشرط من شروط قبوله بتولي المسؤولية!

وبدلاً من أن يؤثر "العسكري المحترف" على "العسكري المنتحل للصفة"، كان التأثير من قبل حميدتي صاحب النفوذ الطاغي على "برهاني"؛ لأنه وجد فرصة مواتية لتحويل الثورة إلى انقلاب عسكري، يمكّن المجلس العسكري من الاستيلاء على الحكم، فبدا فض الاعتصام متفقاً عليه بين "الحقيقي" و"المزيف"، وإعمالاً لنصيحة عواصم الثورة المضادة، التي تتمثل في أن استخدام القوة المميتة في التعامل مع الثوار سينهي الأمر. وتم الفض، ولم يجد الجيش في هذا خروجاً على قيم المروءة ما دامت العقيدة العسكرية تبين أنها من الأساطير، فالثورة استجارت بالجيش، لكن قائد الجيش كانت له أطماع، وكان في وضع "عبد المأمور"، ومأموره في العواصم الثلاث!

لقد ظنت عواصم الثورة المضادة أنه في كل مرة "تسلم الجرة"، وأنه بالقوة يتم التمكين للثورة المضادة، وتمكين العسكري من الحكم، كمرحلة مؤقتة لبرهاني، وكل الدلائل تشير إلى أن "حميدتي" هو رئيس السودان المحتمل، ويفوز باللذات كل مغامر!

كانت المفاجأة، التي لم يحسب لها القوم حساباً هي استمرار الثورة، وإذا كانت العواصم الغربية صمتت على الجريمة لساعات طويلة، فلما رأت بأس الثوار، بدأت بيانات الإدانة تصدر على استحياء!

ولم يكن هذا هو فقط الجديد، فالثورة المصرية كانت أشد بعد الفض، لكنها أزمة القيادة في مصر، التي أنهكت الثورة بدون خطة مدروسة، وفي مظاهرات بدت بلا طائل، وكأن المستهدف بها هو عملية الإنهاك، في ظل رقابة "القيادة الرشيدة"، فلما تحقق الهدف، كان الطلب من الناس أن يبقوا في بيوتهم إلى حين أن ترسل إليهم هذه "القيادة الرشيدة" دعوة أخرى للتظاهر!

وفي المقابل، فإن القوى السياسية التي ارتبطت بالعسكر في السودان، لم تؤيد عملية الفض، ولم تخرج ترقص على الجثامين، ولم تهتف بحياة العسكري الذي فض الاعتصام بالقوة، كما كان الحال في مصر من قوى الكفاح الفاشل التي تجردت من كل معاني الإنسانية!

والحال كذلك، فقد نفى المجلس العسكري أي علاقة له بالفض، فأضحك الثكالى بهذا النفي، فهل نزل على ساحة "القيادة العامة" الطير الأبابيل؟.. إذن ما هو دور أهل الحكم إذا لم يستطيعوا القبض على الجناة والوقوف على هويتهم؟!

كان هذا دليل ارتباك، أنتجه الوضع المختلف عن ما جرى في مذبحة رابعة وأخواتها، ليتراجع المجلس العسكري عن قراره بوقف التفاوض قبل قرار الفض، فيدعو إلى التفاوض من جديد، ظنا منه أن قوى التغيير ستأتي له طوعاً أو كرهاً، كما كانت تفعل القوى المحسوبة على الثورة المصرية بعد كل عدوان على اعتصامات الثوار بعد ثورة يناير!

بيد أنه يُذكر لقوى الحرية والتغيير أنها رفضت الدعوة، وقالت إنها لن تجلس مع قتلة أيديهم ملوثة بدماء السودانيين، ثم كانت الدعوة إلى العصيان المدني، والتي نجحت نجاحا مبهراً، فكان الأداء المترنح للمجلس العسكري!

لقد قال بيان للمجلس إن الدعوة للعصيان المدني تمثل ضغطا على حياة الناس. وكان هذا اعترافا بنجاح الدعوة، ولم يكن أحد قد شكك في نجاحها!

لقد أضحك العسكر الثكالى للمرة الثانية؛ لأنهم يتحدثون عن "حياة الناس"؛ فماذا بقي للناس بعد حكمهم، الذي جاء قبل ثلاثين سنة عبر الدبابة؟ وهل كان سيدهم البشير حاكما مدنيا جاء لموقعه بالانتخابات الحرة؟!

ثم كان المضحك أيضا (باعتبار أن شر البلية ما يضحك)؛ هو القول بأن فض الاعتصام كان بعلم مسبق وموافقة من قوى الحرية والتغيير!

فها هو يعترف بعد إنكار بأنه من قام بالفض، وهو اعتراف في سعيه للمشي بين الناس بالنميمة، بالقول إن قيادة الثورة وافقت على جريمتهم وأنها شريكة فيها!

لم يكن بإمكانهم الاستمرار في الإنكار، فالكاميرات رصدت ما قامت به مليشيات الدعم السريع من فظائع، وقد أراد المجلس العسكري أن يأخذ معه قوى التغيير، فهل وافقت على قتل الثوار والاعتداء عليهم، وعلى إلقاء الجثامين في نهر النيل؟!

نجحت الدعوة للعصيان المدني العام؛ لأن التجربة المصرية مثلت درساً بليغاً للسودانيين، وكان الدرس المهم أنه ليس في كل مرة "تسلم الجرة"!

لم تنتبه عواصم الثورة المضادة إلى هتاف الثوار في السودان: "إما النصر وإما مصر"!

فالسودان ليس مصر!

أضف تعليقك