• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: حلمي الأسمر

(1)

في مرحلة انعدام الوزن التي تعيشها الأمم تصاب رؤيتها بالخلل، وليس العمى الكامل، فما هو صغيرٌ تراه كبيرا، وما هو كبيرٌ تراه صغيرا. وقد غدا هذا الأمر أكثر وضوحا بعد شيوع حالة التعبير عن الرأي بسهولة وسيولة ويسر، عبر منصات التواصل الاجتماعي. وبصراحة تامة، بعض المعارك التي يخوضها الناشطون الاجتماعيون لا ضرورة لها، بل ربما تكون من نوع المعارك "الحولاء"، أو بمعنى آخر، ربما تكون معارك بديلة، غير ذات قيمة، وتنحرف باهتمام الناس عن المعارك الأصيلة! من هذه المعارك مثلا الجدل الساخن الذي دار في الأردن بشأن وضع خانة الديانة أو إزالتها في بطاقة الهوية الشخصية، وعمّا إذا كانت ظاهرة في البطاقة، أو موجودة في "الداتا" التي تشتمل عليها تلك البطاقة الذكية. لم أكن منحازا لأيٍّ من طرفي المعادلة، سواء من المؤيدين أو الرافضين، بل اعتقدت حينها أن وضع الخانة أو تغييبها سيان عندي، لأن وضعها لا يزيد في تأصيل تديّن المجتمع، وإزالتها لا يعني أننا شطبنا الدين من قلوب المؤمنين به، فالدين أصلا في القلب، وما يظهر على الجوارح، وليس لدي علم ما إذا كانت بطاقة الهوية الذكية من هذه الجوارح، أم لا.

ومن الأمثلة الصارخة على المعارك البديلة أيضا ذلك البكاء المرير الذي أريق على تعطيل صلاة الجمعة في حلب، ذات يوم مضى، في ذروة تعرّضها لحرب ضروس يشارك فيها الكل ضد الكل، حتى بدا لدى بعضهم أن تعطيل الصلاة أهم بكثير من نهر الدماء الذي سال من الضحايا، في حلب وفي غيرها، علما أن قتل المؤمن أعظم عند الله عز وجل من زوال الدنيا، كلها، كما ورد في الأثر الشريف.

ومن جميل ما قال لي مرة النائب الأردني، يحيى السعود، إن جل ما يفعله النواب في بعض "التعديلات" على مشاريع القوانين التي تردهم من الحكومة، يتعلق بتغيير حرف هنا أو هناك، أو كسرة أو ضمّة، على حد قوله. أما التعديل "الجوهري" فغير ممكن، بسبب الآليات التي تحكم المجلس، ولعبة مراكز القوى، بل اعترف لي بأنه كان فيما مضى جزءا من هذه المراكز. وفي المحصلة، ثمّة معارك طاحنة تدور في الأطراف، فيما تبقى الجذور في منأى عن التغيير.

في الأردن أيضا، جرت "معارك طاحنة" بشأن مسلسل "جن" الذي قيل إنه "أردني"، مع أن أحدا لم يكد يراه كاملا، وكل ما رؤي منه بضع لقطات فيها "حميمية زائدة" بين شاب وفتاة مراهقيْن، والحقيقة أن المسلسل صدمنا فعلا، ليس لأنه قليل أدب وفيه مشاهد خادشة للحياء فقط، بل لأنه أظهر لنا الوجه الآخر لمجتمعٍ يصر أنه لم يزل محافظا، وقليلون من كتبوا عن الجانب الآخر من المسلسل، بوصفه يكشف عن الملف المسكوت عنه من حياة الشبان والشابات، ولا يكاد يجرؤ أحد على الكلام "الفصيح" فيه دونما خوف.

(2)

المثل الأبرز للمتحدث عنه هنا وفاة، أو بالأحرى قتل، الرئيس المصري الشرعي والمنتخب محمد مرسي، عليه رحمة الله، فقد بدا أن القوم انقسموا بين فئتين: واحدة تؤسطره والثانية تؤنسنه، والفئة الثانية انقسمت هي الأخرى إلى واحدة أمعنت في التقليل من شأنه، ليس من باب الأنسنة التي تحتمل الخير والشر، بل الشيطنة أيضا، على نحو مخلّ بكل المشاعر الإنسانية، وثانية تناولته بوصفه ظاهرة بشرية عادية، خاضعة للنقد والتحليل والتقويم. وبين هذا وذاك، يظهر كم يعيش العقل الجمعي العربي حالة تيه ربما تكون غير مسبوقة.

الإعلام المصري، ومن لف لفه، بدا في حالة عوار، بل فضيحة، فمرسي ليس مواطنا عاديا، بل كان رئيسا باختيار أكثر من أربعين مليون مصري، وإهانته في مماته (كما في حياته) إهانةٌ لمصر وشعبها وحضارتها، ولا يليق أن تتم معاملة حادثة وفاته بوصفها حالةً تستدعي الاحتفال والشماتة، فهو يستحق موتا مشرّفا، إن لم يكن له فللأربعين مليونا الذين انتخبوه، ولمصر العظيمة التي كان رئيسها.

تعامُل سلطة الانقلاب في مصر المذل مع رئيس منتخب، في حياته ومماته، يظهر الدرك الذي وصلت إليه أكبر دولة عربية، هي وفق كل المقاييس على شفا جرفٍ هار، ولا أجد كلماتٍ أصفها بها، غير وصف صديقٍ فر بجلده منها، قائلا إنها أشبه ببرميل بارود لا تنقصه غير شعلة فينفجر.

المثل الأكثر نصاعة على مسألة أنسنة مرسي، بوصفه أنموذجا لحالة إسلامية تستحق التقويم بمنتهى العلمية والتجرد، ما قاله أحد الدعاة، ممن نهلوا من فكر السلفية الجهادية، حين تحدّث عن مرسي برؤية التقويم والنقد، فهاجت الدنيا وماجت، حيث كان الهجوم عليه شديدا وقاسيا، وتم نعته بنعوتٍ جارحة. أعلن هذا الداعية، مثلا، عدم إيمانه بشرعية صناديق الانتخابات، تعليقا على وصف الرئيس مرسي بالرئيس الشرعي، لأنه في الأصل لا يراها الطريقة الشرعية التي ينال الحاكم الشرعية من خلالها، وهو في هذا واضح جدا في رأيه وموقفه من الديمقراطية، إذ يعبّر عن قناعته وفكره الذي يصدر فيه عن أدلةٍ ودراسة، فليس لمخالفه أن يفرض عليه ما يراه من مشروعية الديمقراطية، وله أن يناقشه في رأيه نقاشا علميا وفكريا، هدفه التجرّد لمعرفة الحق، والوصول إلى الحقيقة، بعيدا عن الاتهامات والاتهامات المضادّة. كما إنه يرى أن الرئيس الراحل مرسي صدرت عنه أقوال وأفعال مصادمة للشريعة مصادمة صريحة. يقول الرجل رأيه من غير مواربة ولا مجاملة، فليذهب إليه أهل العلم والفكر ممن لا يرون رأيه، ويخالفونه في إطلاق تلك الأحكام، وليسمعوا منه وليناقشوه في ذلك، قبل اتهامه بالتطرف والداعشية وما إلى ذلك.

(3)

أما من أسْطر مرسي، فحدِّث ولا حرج، فقد تحوّل الرجل إلى أيقونةٍ لا ترى إلا الجانب المشرق من تجربته، مع أنه أفضى إلى ربه شخصيا، وهو عند ملك عادل لا يُظلم بين يديه أحد، لكن تجربته ملكٌ لنا نحن الذين لم نزل أحياء، ومن حقنا أن نتناولها بدون إضفاء أي هالةٍ أسطورية عليها، فقد أثرت التجربة برمتها على حال الأمة ومستقبلها، والأمم الحية تُخضع تجاربها للتقويم والمراجعة، من دون أن يكون في هذا انتقاص من فرسانها.

أضف تعليقك