• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: محمد ثابت

تمثل الثانوية المصرية، بشقيها العام والأزهري، ملخصًا بائسًا للحال المأساوي لمصر، وهو الملخص الذي يزداد مع مر السنين تراكمًا وتراجعًا، كما كل مكونات الحياة في المحروسة اليوم. ويلاحظ المُتابع لنتائج الثانويتين المُعلنتين للعام الحالي، قبل أيام، ارتفاع المجاميع التي حصل عليها الطلاب والطالبات على مستوى مصر كلها، وأن نسبة ليست قليلة منهم تعدت 90%. وهذه النسبة العالية من الدرجات لا توحي بالخير في مصر، على النقيض تمامًا مما يمكن أن تدل عليه في دول العالم المتقدمة، فعندما يتجاوز 14 طالبًا وطالبة 90% في قرية واحدة من مصر الوسطى (صندفا التابعة لمدينة بني مزار في محافظة المنيا)، وهي من مئات القرى المصرية، تراوحت نسب الطلبة والطالبات المتفوقات بين 99.51% لأعلى طالبة، و93.21 لأدنى طالب منهم؛ وليس مأمولا أن يؤثر ذلك في واقع الحياة، فإن خللًا كبيرًا يعانيه المصريون اليوم.

أما دلالة حصول آلاف الطلاب والطالبات على نسبة تقارب المائة في المائة فأزمة مباشرة، تنقسم كمًا وكيفًا بشكل مباشر، أما من ناحية الكيف، أو الجودة التعليمية، فلا تعبر الدرجات المرتفعة في امتحانات الثانوية العامة عن جودةٍ نوعية في تلقي المواد التعليمية النظرية المصرية في الغالب الأعم، بل تعبر عن قدرةٍ على حفظ المناهج في الغالب، أو مزيج الحفظ مع الفهم على أقصى تقدير.

من حيث الكم، أو كثرة عدد الحائزين على الدرجات شبه النهائية في الثانوية المصرية، بقسميها من علمي وأدبي، فقد تم تفريغ هذا التفوق، عبر عشرات السنوات، من محتواه؛ لا استثماره في تطوير نوعي للمواد التي يتعلمها الطلاب والطالبات، وتنوعها بين الإبداعية والتفاعلية والعملية، مع وجود النظرية في حيز معقول. وتتبلور المأساة في أن جودة التعليم المصري، كمًا وكيفًا، تراجعتْ لتقتصر فحسب على مجرد حفظ مواد نظرية، أو فهمها أو استرجاعها، وحتى الجانب العملي منها يعرف الطالب كيف يصفه نظريًا، فمعامل الكيمياء في المدارس الثانوية المصرية، في طول البلاد وعرضها، إما مغلقة أو غير مزودة بالإمكانات المطلوبة، وفي جميع الأحوال لا يمكنها استقبال مئات الطلاب، إن لم يكن أكثر في كل مدرسة لضيقها وتآكلها وفرط قدمها. ومع الوقت، صارت في مصر نماذج متكررة لمآس متراكمة، فما يخص المعامل يخص الملاعب يخص الحدائق والمساجد، والنتيجة إطار نظري مكثف من مواد جافة حيال الحياة العملية وقسوتها في بلد يراوح موقعه من العالم الثالث.

أما الارتفاع التصاعدي للمجاميع الذي وصل إلى أقصاه هذا العام، ومن المرجح أن يزداد مستقبلًا، فالأمر يشبه إلى حد كبير ارتفاع الأسعار، علوا في الأرقام الموجودة مع المواطن وارتفاعا أكثر في قيمة السلع.. مع عدم جودة محتواها، وإلا فمن المنتظر أن يرتفع القبول في كليات الطب في جامعات الأزهر ليتجاوز 93%، فيما تعلو كليات طب الأسنان هذا العام لتتجاوز نسبة 95.8%، أما الهندسة فمن المتوقع تجاوزها 91.38%، والنسب المذكورة كلها تعود للعام الماضي، حيث كانت المجاميع ونسبها أقل نسبيًا! أما التعليم العام فسيشهد نقلة أخرى في الدرجات رهيبة، تتجاوز المعقول والمنطقي، إذ يتوقع أن يكون الالتحاق بكليات الطب بدءا من 98% أو أكثر، وطب الأسنان أقل بنسبة بسيطة، والصيدلة بدءا من 96.8%، والهندسة في قسم العلمي رياضة من 92.2، وهكذا سيتم غلق كل الكليات المذكورة في المرحلة الأولى من التنسيق، لعدم توفر أماكن شاغرة فيها، ولن يستطيع طالب حاصل على 96% في القسم العلمي العام الالتحاق بأيٍّ من كليات الطب المتاحة في طول البلاد وعرضها، أو حتى بكلية الصيدلة. وكذلك لن يستطيع طالب حاز 92% هذا العام من قسم علمي رياضة عام الالتحاق بكلية الهندسة!

ومع الارتفاع المُبالغ فيه في مجاميع كليات الطب، يبقى المنطق قصيًا موغلًا في البعد عن الواقع الحياتي المصري، ففي حين يُمنع آلاف ممن أقرّت لهم وزارة التربية والتعليم المصرية وفق مقاييسها بالتفوق، صرحت وزيرة الصحة، هالة زايد، لمجلس النواب المصري في سبتمبر/ أيلول الماضي، بأن في مصر 103 آلاف طبيب لقرابة مائة مليون، وأن 60% من أطباء الكنانة سافروا للعمل في خارج البلاد. وقدّرت دراسة للمجلس الأعلى للجامعات مع وزارة الصحة أن نقص الأطباء البشريين في مصر يقترب من 62% من المعدلات العالمية، فبدلًا من أن يوجد طبيب واحد لكل 434 فردًا، يوجد في مصر طبيب لكل 1162 مصريًا.

ولا يعني ما سبق لدى وزارة التعليم العالي انتهاز فرصة وجود عدد هائل من المتفوقين، وإنجاز خطة للقضاء على عجز الأطباء، سواء من خريجي الأزهر أو التعليم العام، وسيظل العدد المسموح به في كليات الطب العامة والأزهرية محدودًا، لا يواكب العجز الحالي، والزيادة المستقبلية المنتظرة نظرًا إلى عدد المواليد الجدد.

وربما قال قائل بإمكانات الجامعات في الطب وغيره ومحدوديتها، على أن هذا القول لا ينفي أن ما يؤديه مكتب التنسيق، المسئول عن توزيع الطلاب والطالبات على الكليات والمعاهد العامة في مصر، غير مربوط بأي حال بالواقع العملي لسوق العمل، لا في الطب ولا في غيره من التخصصات، مثلما لا ترتبط مواده حتى الثانوية على الأقل بواقع الحياة. وبالتالي وبناء عليه، فإن تصنيف الجامعات QS البريطانى لعام 2020، بحسب صحيفة اليوم السابع، المحسوبة على النظام المصري الحالي، حازت فيه جامعة القاهرة على المركز بين 521 و530، فيما حازت جامعات عين شمس والإسكندرية والأزهر على تصنيف من 801 حتى 1000، فلا يوجد جامعة واحدة مصرية عامة ضمن أفضل 500 جامعة على مستوى العالم. أما ارتباط الخريج المُفترض أنه بالغ التفوق، بحسب مقاييس التعليم المصري، بالحياة المعيشية فأكثر مرارة، إذ يتقاضى الطبيب، بعد عمر في التعليم، نحو 1800 جنيه مصري، أو قرابة 110 دولارات في عمله الحكومي، وبمقارنة المبلغ بما يتقاضاه المعلم أو المهندس صار الواقع أكثر مرارة، وبمقارنة هذا كله بالمبلغ المطلوب لمواكبة الحياة والأسعار وزيادتها صار الأمر مأساويًا إلى أبعد مدى... وهكذا تبقى الثانوية، عامة وأزهرية، ملخصة لحال مصر ومستوى المعيشة والحياة غير المتفقين لا مع المنطق أو المعيشة أو الحياة.

أضف تعليقك