• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم سليم عزوز

فوجئت بي متلبساً بتشجيع المنتخب الجزائري، في مباريات كأس الأمم الأفريقية، رغم أن علاقتي بكرة القدم انتهت في مرحلة مبكرة من عمري المديد بإذن الله تعالى. ولا أظن أن الملاعب خسرت شيئاً بهذا الاعتزال، كما أنني لم أشجع في حياتي فريقاً سوى الزمالك ولأسابيع قليلة، من باب نصرة الأقليات!

كنت في مدرسة محمد فريد الإعدادية بجهينة، وقد خُيّل لي أن المدرسة جميعها تشجع النادي الأهلي، إلا "صلاح"، والذي كان زميلي في نفس المرحلة، ومع كل مباراة يُهزم فيها الزمالك، أو ينتصر فيها الأهلي، أو يفوز بها فريق آخر غير الزمالك وغير الأهلي، تتجمع المدرسة حول "صلاح" هذا، باعتباره رمز الهزيمة الأوحد ورايتها الوحيدة، فيضيع دفاعه وسط أصوات العامة من "الأهلوية"، وعليه قررت أن أشجع الزمالك.

حاولت في البداية أن أشاهد مباراة كاملة، لكن الملل سرعان ما تسرب إلى نفسي، واكتشفت أنه ليس شرطاً لتحضر مباراة لتتحدث عما جرى فيها وتهزم خصمك في ساحة الجدل والنقاش، فنصرت "صلاح" ظالما ومظلوماً، وتحدثت عن المباراة موضوع النقاش كما لو كنت أشاهدها وأنا في المعلب.. الأمر غوغائية وأصوات متداخلة، ومعركة يحسمها الأعلى صوتا، والأكثر همّة، وليس فقط من تابع المباراة بعناية. ومرة وراء الأخرى، لم يعد أحد يقترب ناحية من ممثل الأقلية في المدرسة، ولم أعد أنا أشجع الزمالك، أو أي فريق آخر!

في عهد مبارك"

ولعل المباراة الوحيدة التي شاهدتها كاملة، هي تلك التي جرت بين المنتخب المصري والجزائري في الخرطوم، بعد أجواء شحن قام بها النظام الحاكم وإعلامه، وبدا لي أنه محاولة لاستبدال علاء مبارك بشقيقه جمال في مسألة التوريث، فقد شارك الشقيق الأصغر كمشجع، لكن المداخلات التلفزيونية كانت لـعلاء، الشقيق الأكبر، وجرى النفخ في الأحداث كما لو كان النظام المصري يخوض حرب الكرامة الوطنية، ولدرجة أنني تصورت أن من مات دون أن ينصر المنتخب المصري بُعث يوم القيام وقد كتب على جبينه "آيس من رحمة الله"!

لم يكن للشعب المصري ناقة ولا جمل في هذه المعركة، وإن نجح الإعلام بزخم التغطية وتسخينها، والقدرة على التلفيق والافتعال، في أن يوحي بأن المصريين جميعهم يقفون على خط النار في هذه المعركة الحاسمة في تاريخ مصر الحديث، وقد تبدد كل هذا بثورة يناير، وتقاسم شعب الجزائر الفرحة بها مع المصريين الذين عبروا في أكثر من مناسبة أنه لم يكن لهم في الأمر من شيء، وأنها معركة نظام وإعلامه وأزلامه، فلما أمسك الشعب بالميكروفون، فقد أعلن براءته مما جرى!

ولعل ما جرى في هذه الأيام، هو أحد دوافع تشجيع المصريين للمنتخب الجزائري، وبلغ من غباء النظام الحالي وإعلامه وأزلامه، أنهم استدعوا هذه السابقة لتحريض الشعب المصري في الاتجاه الآخر، وتذكيرهم بالثائر القديم مع الشعب الجزائري الذي اعتدى على المشجعين المصريين في الخرطوم، ونسوا أن ليل المؤامرة قد مضى، وأن هذا العداء المفتعل دفع المصريين لتأكيد حبهم للجزائريين، لا يضرهم من ضلوا ولا يعنيهم من يلاعبون، حتى وإن كانت المنافسة مع بلد ليس من الجائز إغضاب شعبه بهذا التأييد الجارف من قبل المصريين لمنافسهم، لكن عذرنا أن الشعب السنغالي يدرك أنه ليس المستهدف بهذا التشجيع، والذي تجاوز الانحياز الكروي بحدوده الضيقة إلى مجال السياسة، ولا يجوز لنظام عسكري أن يرفع الآن شعار لا سياسة في الرياضة، ولا رياضة في السياسة، فهو من قام بعملية التوظيف السياسي لهذه الدورة!

جاء يتمطى

وجاء السيسي إلى الاستاد يتمطى، باعتبار أن ما سيحدث فيه هو إنجاز له، واندفعت دار الإفتاء المصرية، خارج اختصاصها الوظيفي لتدعو المصريين لتأييد المنتخب الوطني، واندفع الإعلام مهللاً ومبكراً بهذا الإنجاز التاريخي على أرض مصر. وكان السيسي وهو يظهر في صورة من يعطي توجيهاته للاعبين، يستعد لدوره الجديد كراعٍ للانتصار الذي حققه المنتخب الوطني. وكان طبيعياً أن يكون الرد عليه بتوظيف سياسي في الاتجاه المعاكس، فهتف المنتخب الجزائري لـ"أبو تريكة"، وهي رسالة سياسية، موجهة لنظام بائس؛ اختزل نفسه لتكون الدولة في مواجهة الفرد، ونفخ في الفرد ليكون في حجم دولة، وأعلن العداء مع "أبو تريكة"، لمواقف سياسية سابقة؛ كان أهمها انحيازه في الملعب لغزة، في وقت يعاديها نظام مبارك، لكن النظام الذي  كان يملك الحد الأدنى من الوعي السياسي، رأى أن الدخول في معركة مع لاعب مشهور هي خسارة بلا مبرر، فقام الإعلام بالهجوم عليه، ثم سرعان ما علم أنها معركة خاسرة فتوقف عن ذلك!

صورة أبو تريكة

بيد أن العسكري الجديد، الذي جاء للحكم من البشلاق، جعل من اللاعب معركته، فوضعه على قوائم الإرهاب، ومنعه من المشاركة في تشييع جنازة والده، وأطلق غلمانه للقيام بحملة إبادة إعلامية ضده، وهو أمر كاشف عن فقدان العقل. فحتى علاء مبارك أدرك أنه يكسب تعاطف الناس بالاقتراب من هذا الرمز الكروي المحبوب، فذهب بنفسه ليؤدي واجب العزاء في وفاة والده. وفي مباريات كأس الأمم الأفريقية، وعندما قال إنه هتف مع الهاتفين باسم أبو تريكة، تم منعه وشقيقه من حضور باقي المباريات.

لقد ألقى النظام العسكري في مصر القبض على مجموعة من المشجعين؛ ارتدوا تيشرتات عليها صورة أبو تريكة، في تصرف هبط بالدولة المصرية إلى مستوى "خناقات الحواري" وأداء الشبيحة فيها، وهنا علم الناس ما يوجع النظام، فهتفوا باسم أبو تريكة، فلما غاب المصريون بهزيمة المنتخب المصري، ملأ أهل الجزائر الفراغ، ففي كل حضور لهم هتفوا باسم أبو تريكة، فإذا بالنظام الطفولي يقوم بترحيل 22 جزائرياً إلى بلادهم. لاحظ أن العدد مقصود في حد ذاته، فالهتاف باسم أبو تريكة يكون في الدقيقة 22 من المباراة، وهو رقم "الفانلة" الخاصة به في الملاعب!

وزاد الجمهور الجزائري بالهتاف باسم فلسطين، فردوا غيبة الأمة. وفي الغالب، فإن الأنظمة العربية مع عمالتها المؤكدة، لا تجد حرجا في هتاف الشعوب باسم فلسطين، لكن النظام الذي التقى وزير خارجيته بوزير خارجية إسرائيل في القدس، بما في ذلك من دلالة، رأى أنه يهان بهذا الهتاف، فقد تحسس بطحته، واندفع إعلامه يهاجم الجزائريين، فالكلام لكِ يا جارة!

لا تنس أن المشجعين الجزائريين جاءوا من بلد يشهد حراكاً عظيما، أكد أن الربيع العربي مستمر، وأن العسكر لا يمكنهم بآلة البطش أن يقضوا على إرادة الشعوب. فبعد عشرية سوداء، ها هو الشعب الجزائري يبدأ من جديد معركته من أجل الاستقلال الوطني، مما أيقظ جينات الثورة من جديد داخل المصريين، وعلى الباغي تدور الدوائر.

لقد أراد عسكري مصر أن يوظف إقامة المباريات سياسياً، ففشل وانقلب السحر على الساحر، ووظفتها الشعوب ثوريا.

فتحية للجزائر، شعبا، ومنتخباً، ومشجعين.

أضف تعليقك