• الصلاة القادمة

    العشاء 17:29

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم : سَليم عزوز

يوحِي العنوان، على غير الحقيقة، أن هذا المقال سينصبّ على المُقارنة بين سيدة الغناء العربي (أم) كلثوم، والنّجم الكروي محمد (أبو) تريكة، لكن الحقيقة أن المُستهدف به هو المُقارنة بين تعامل النظامين معهما، نظام عبد الناصر، ونظام السيسي، وكلّ منهما ضابط، لكنْ هناك فارق بطبيعة الحال بينهما، لا يُميّز فقط بين طبيعة أبناء المدرسة الواحدة، حيث ترجع للفروق الشخصية وللخبرة في الحياة، ولكنها تميز أيضاً بين الأخين، فـ «البطن قلابة» كما ورد في الأمثال!

لقد غنّت أم كلثوم للملك فاروق في عيد ميلاده: «اجمعي يا مصر أزهار الأماني/ يوم ميلاد المليك واهتفي من بعد تقديم التهاني». فقد كان هذا هو السّياق العام، فقد غنّى له الموسيقار محمد عبد الوهاب وغيره من نجوم الغناء في هذه المرحلة، فلما قامت ثورة يوليو 1952، قام الضابط المسؤول عن الإذاعة المصرية، بمنع إذاعة أغاني «الست» لارتباطها بالعهد البائد، وأرسلت هي شكوى لعبد الناصر، الذي تدخل في الحال فأوقف القرار، فأيّ نظام في الدنيا يمكنه أن يخسر، أو يُفرّط في فنانة مثلها، يلتفّ حول صوتها عموم العرب، ويكشف عن نجمة في حجم الآنسة أم كلثوم.

لقد تجاوز عبد الناصر هذه المواقف، فالصحفي المُقرّب منه وهو «محمد حسنين هيكل» كتب مَقالاً في حُبّ الملك: «في يوم عيدك يا مولاي»، ولو أخذ الناس بمواقفهم في عهد ما قبل الثورة، لخسر الجميع، فالذين انحازوا لثورته كانوا في مجملهم خصوماً لحزب الوفد، وأكثر انحيازاً للملك والعهد البائد، والملك قد رحل، وبالتالي فلا تجُوز القطيعَة مع مَن كانوا معه، لأنه سيخسَر نجوم مصر في كل المجالات، ومن السياسة إلى الصحافة إلى الفن.

وعندما ينظر المرء إلى ما يحدث مع النجم محمد أبو تريكة من تنكيل، فإنه يقف على الفَرق بين عَسكري وآخر، وبين ديكتاتور وديكتاتور، وبين مُنقلب ومُنقلب، والضُّباط الأحرار هم أنفسهم من أطلقوا على ثورتهم في البداية انقلاباً، وحركة مُباركة، وكتب خالد محمد خالد في مذكراته، أنه وصفها في البداية بـ «الثورة» في مقالة بجريدة «الجمهورية» التي تصدرها الحركة، فلم يُنشر المقال وحُذف الوصف، الذي ينسب لطه حسين بعد ذلك فكتبه ورَاقَ للضُّباط.

لا يختلف اثنان، في قيمة «أبو تريكة»، ليس فقط في مصر، ولكن على مستوى العالم العربي، منذ موقفه التاريخي عندما انحاز في الملاعب للقضية الفلسطينيّة، ولغزّة المُحاصَرة التي يتم دكّها بصواريخ إسرائيل، مع حصَار نظام مبارك لها، فارتقَى في القلوب إلى أكبر من لاعب في فريق، أو لاعب يمثل دولة في منتخبها الوطني، وقتها أظهر جهلاً بالسياسة، وقرباً من المشاعر الإنسانية، فصار نجماً عابراً للدول، فيعامله شعب الجزائر بعد الأزمة «إياها» على أنه فوق المشكلة، فاستقبلوه باحترام بالغ، ووصفوه بـ «فخر العرب».

بعد الثورة أظهر «أبو تريكة» انحيازاً سياسيّاً لم يرُق للمجلس العسكري، لكنه انحياز في مجال الكرة لم يتعداها، بعد مذبحة بور سعيد، وعندما وقع الانقلاب العسكري، حصر نفسه في مجاله، لا يتعدى حدوده، فليست لديه رغبة للقيام بدور الزعيم السياسي، وليست عنده الملكات اللازمة لذلك، وكل مُيَسّر لما خُلق له.

وبدأ النظام العسكري يُنكّل به، فقد وضَعَه على قوائم الإرهاب وصادَرَ أموالَه، وعندما صدر حكم يُلغي هذا القرار، تم وضعه في قائمة أخرى، بشكل يؤكد أنه مستهدف من النظام مع سبق الإصرار والترصد، ثم كانت حملة الإبادة الإعلامية.

وتم وضع اسمه على قوائم ترقب الوصول، مما منعَه من أن يُعامَل معامَلة نجل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، فلم يسمحوا له بالنزول لتشييع جثمان والده، ومُنِعت أسرته من زيارته قبل أن يسمحوا لها بالزيارة مؤخراً فقط.

وبدا هو من ناحيته ليس حريصاً على استمرار الخصومة، التي بدت أنها من طرف واحد، فكان له دور مهم في اختيار مصر للدورة الأفريقية، لكن النظام العسكري، الذي هبط بمصر لخلافات «شبيحة الحواري»، ولمستوى فرد، مهما علا نجمه فهو مواطن، وتم رفعه ليكون في مستوى الدولة، فيناطحها وتناطحه.

ولأن جماهير المشجعين كانت تُدرك أن رفع اسم أبو تريكة هو هتاف ضد الحكم القائم ولعدائه غير المبرر والمقبول لنجم الملاعب، فكان الهتاف باسمه رغم حضور المخبرين الأمنيين في المدرجات بشكل لافت وغير مسبوق، وهبط القوم باسم مصر فتم اصطياد مجموعة من الشباب يرتدون تيشرتات تحمل صورته، والقبض عليهم، ليستمر رد فعل الجماهير، واكتمل المشهد بالمشجعين الجزائريين، بما عرف عنهم من حماس وجسارة.

وكان ما يحدث رسالة لسلطة لا تعرف أنه لا يجوز لها أن تتحدى الجماهير، فكان الهبوط بالدولة المصرية، إلى درجة تقديم بلاغات في معلق رياضي زار والدة زميله أبو تريكة في منزلها بالقاهرة، من باب الواجبات الاجتماعية، لأنه زميل له في قناة «بي ان سبورت»، فلما علمت الجماهير بأن هذا أغضب السلطة، كان بيته مزاراً للمشجعين الجزائريين في اليوم التالي، كرسالة سياسية في هذه المرة.

ولم ينتبه الصغار إلى خطورة هذا الهبوط في التصرف بمكانة الدولة المصرية، فتوالت البلاغات ومن محامين محسوبين على النظام، لا يتقدمون ببلاغاتهم إلا بترتيبات مع الأجهزة الأمنية، فماذا يستهدفون على وجه التحديد؟!

يحدث هذا بدلاً من أن تحتضن السلطة أبو تريكة وقد أصبح يضاف إلى قوة مصر الناعمة، لكنها تذهب في شجارها معه بعيداً، وهو شجار من طرف واحد!

فعبد الفتاح السيسي ليس هو جمال عبد الناصر الذي أوقف قرار منع أم كلثوم من الغناء لارتباطها بالنظام البائد، واستغل اسمها ومكانتها لصالح حكمه، فكانت سفيرة لمصر فوق العادة في رحلاتها الخارجية، ومن خلال حفلاتها التي خصصت إيرادها للمجهود الحربي.

عبد الناصر، لم يبق طويلاً في الثكنة العسكرية، ثم أنه يمتلك الوعي السياسي، فتواصل مع الأحزاب القائمة، وانضم للحزب الشيوعي «حدتو»، ولمصر الفتاة، ثم لجماعة الإخوان المسلمين، وهناك رواية تقول إنه انضم لحزب الوفد أيضاً.

ثم إن عبد الناصر كان قارئاً نهماً، ومن هذا الباب، باب القارئ تمكن من السيطرة على الكُتّاب الكبار، لأنه قدم نفسه بأنه قارئ لهم، ولم يكتف بهذا، ولكنه كان يذكرهم بما كتبوا ويناقشهم فيه، أو يرسل لهم رسائل بهذا المعنى ومن أول طه حسين، إلى خالد محمد خالد، إلى عبد الرحمن بدوي.

والسيسي لم يُذكَر له أن قرأ كتاباً أو مقالاً، أو حتى المقالات الاجتماعية لعبد الوهاب مطاوع في «أهرام الجمعة» التي كان يعكف على قراءتها كثيرون بما في ذلك «ربات البيوت»، ثم إن السيسي استمر في ثكنات الجيش إلى أن ترشح للرئاسة، فكان طبيعياً أن يقول إنه ليس سياسياً ولا يفهم في السياسة. وإن كان يتولى أعلى منصب سياسي في البلاد!

المُقارنة ليست بين (أم) كلثوم، و(أبو) تريكة ولكن بين عسكري وعسكري، وبين ديكتاتور وديكتاتور، وبين مَن يملكُ وعياً، وبين صاحب الوعي المفقود،

فماذا يُمثل أبو تريكة عنده؟.. لاعب كرة؟! فلو دخل الجيش كان سُينادَى عليه: اجمع يا عسكري يا سيكا!

وتلك هي المشكلة.

 

أضف تعليقك