• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: وائل قنديل

تحضيرًا للانقلاب العسكري، عقب انتخاب الرئيس محمد مرسي، مباشرة، غرقت القاهرة في طوفانٍ من الإعلانات، اجتاح الشوارع والجسور وأعمدة الإنارة وجدران المباني عن محطة إذاعة جديدة تحت اسم "راديو 9090".

وسريعًا، عرف الناس أن المخابرات الحربية التي كان يديرها اللواء عبد الفتاح السيسي في ذلك الوقت، قرّرت اقتحام حقول الإعلام المصري، على نحو مباشر، إذ لم يعد يكفيها أن تنشر قواتها سرًا في نوافذ الإعلام التقليدية، فاستدارت تقتطع مساحاتها الخاصة.

بدأت الحكاية بمحطة FM وحيدة، وبعد سبع سنوات صار الإعلام كله يرتدي اللون الكاكي، ويتحدّث ويفكر عسكريًا وأمنيًا، ويتحول إلى سلاح للردع والإرهاب، لا مكان فيه للأوغاد الذي يحلمون بدولة مدنية ديمقراطية، تعرف مبادئ تكافؤ الفرص والمنافسة العادلة.

بعد أن استتب الأمر للانقلاب العسكري، استدار الجنرالات لعسكرة كل شيء في مصر، السياسة والاقتصاد والتعليم والطب والسياحة والترفيه، وكما علقت قبل ثلاثة أعوام "ليتغير تعريف مصر من "جمهورية مصر العربية" إلى "جمهورية الهيئة الهندسية" بالنظر إلى حضورها الطاغي في كل شيء على أرض البلاد، من أعمال "الباديكير والمانيكير" في أندية القوات المسلحة إلى تشغيل الطرق السريعة، لحسابها، بطول البلاد وعرضها.

لم تعد القوات المسلحة تزاحم القطاعين، العام والخاص، وتنازعهما في عملهما، بل صارت الكيان المخيف الذي يحتكر السوق، ويوزّع الفتات على الآخرين، أو إن شئت الدقة، باتت "الهيئة الهندسية" هي المقاول الكبير الذي يهيمن ويمنح الآخرين فرصة المشاركة، بالقدر الذي يحدده".

الآن يضج الجنرالات بالهامش الضئيل الذي تركوه للمدنيين الأوغاد لكي يلعبوا فيه، فقرروا إحراق هذا الهامش ومصادرته وضمه إلى الإمبراطورية العسكرية الرهيبة التي تحدّث عنها في مارس/ آذار 2012 عضو المجلس العسكرى اللواء محمود نصر في ندوة بعنوان "رؤية للإصلاح الاقتصادى" قائلًا: "سنقاتل على مشروعاتنا وهذه معركة لن نتركها. العرق الذي ظللنا 30 سنة لن نتركه لأحد آخر يدمره، ولن نسمح للغير أيا كان بالاقتراب من مشروعات القوات المسلحة".

الجديد هذه المرة دخول دولة الجنرالات على سوق الدواء، والبداية بضربة عنيفة أطاحت أقدم سلسلتين في عالم الصيدلة خارج السوق وأعرقهما، من خلال قرار بإعدامهما وشطبهما من سجلات النشاط، ومحوهما من الجديد، لصالح كيان صيدلي جديد وغامض، يتوغل بتوحش في كل شبر على أرض مصر باسم (19011) ملتهمًا في طريقه كل الكيانات الصغيرة والكبيرة التي تعمل في مجال الدواء منذ عقود، لينزاح الغموض رويدًا رويدًا، وتروج الأخبار عن وجود اسم ابن عبد الفتاح السيسي في تشكيل مجلس إدارة تنين الصيدلة الجديد.

في السنوات الأخيرة من عصر حسني مبارك، كان الكلام يدور عن دخول ولديه، جمال وعلاء، بقوة، إلى النشاط الاقتصادي، فكانت أمانة السياسات في الحزب الحاكم، والتي يرأسها جمال مبارك، حكومةً فوق الحكومة، ودولةً فوق الدولة، لتجسد نموذج الأوليغاركية الجديدة، القائم على زواج حرام بين السلطة والمال، المملوك لحفنة رجال أعمال جمال مبارك الذين انقضّوا بضراوة على مناطق نفوذ الحرس القديم في نظام مبارك، ودار صراع مملوكي حامي الوطيس، أنهته ثورة يناير 2011، فلم يعد هناك حرس قديم أو جديد، فخلت الساحة لامبراطورية الجنرالات.

ثنائية الحرس القديم والحرس الجديد في زمن حسني مبارك تركت هوامش للمناورة والمنافسة والشكوى، وبكلمة واحدة: البقاء. إذ كان من الممكن أن يتدخّل حسني مبارك شخصيًا من أجل كبح جماح قوى الاقتصاد السياسي، الصاعدة مع صعود أسهم ابنه في وراثة الحكم من بعده، والمندفعة بتهور، بدا مهددًا منظومة السلطة كلها.

يتذكّر الناس تلك الأجواء الأوليغارشية تحت عنوان "زمن الفساد الجميل"، إذ كان الفساد أعقل وأهدأ، ومقيدًا بحدود معينة، منعًا للانفجار والانهيار، حيث كانت هناك صحافة مستقلة، بنسبة ما، تراقب وتكشف وتنشر، وتخاطب رأيًا عامًا، كان لا يزال يحتفظ بنبض في عروقه، ويعرف مفردات وأدوات التظاهر والاحتجاج، إذ لم تكن كلفة ذلك قاتلة، وإن كانت مؤلمة وفادحة.

الآن، مع سلطة الجنرال الجائع للتسلط والتوحش والهيمنة، ليس ثمّة ضابط للجموح، ولا صحافة يمكن أن تتكلم، ولا رأي عام يستطيع الاحتجاج والغضب، أو حتى يجأر بالشكوى، في هذا الهامش الضئيل، المتروك عن قصد من أهل سلطة مبارك، فالجنرال السيسي يهيمن على كل تفاصيل المشهد، فيزرع أحد أبنائه ليكون الرجل الأول في المخابرات العامة، والثاني يهيمن على الرقابة الإدارية، لتتشكل ملامح دولة ملكية عسكرية، تقوم على حكم الأسرة.

طبيعي، والأمر كذلك، ألا يبقى هناك هامش يسمح فيه بالحركة لأية قوى أخرى، في السياسة أو في الاقتصاد.. ليس مسموحًا لأحد بمشاركة الجنرال في ملكه.

 

أضف تعليقك