• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم الكاتب الصحفي محمد منير

كتبت في أحد مواقع التواصل الاجتماعي متحفظا على احتفالات النظام المصري بانتصار السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، وهو واقع تحت هيمنة وسيطرة العصابات الصهيونية! وبعدها قابلني صديق وزميل شاب أعتز به وناقشني فيما كتبته، وسألني عن اشتراكي في حرب أكتوبر 1973 فقلت له: إنني كنت ضمن فرق المقاومة الشعبية آنذاك، وسافرنا إلى أحد الأماكن ولكننا لم نحارب أو نشتبك مع العدو، فباغتني وهو مندهش بسؤال أدهشني: "طب ليه أنت ماعندكش انتماء ولا تحتفل معنا ببطولات الجيش المصري؟".

 في البداية كدت اعتبر سؤاله تجاوزا معي وكدت أغضب منه، ولكني أدركت أن الأمر ملتبس عليه وأنه واقع في الشرك والخلط الذي وقع فيه معظمنا.

الصراع العربي الصهيوني صراع ممتد منذ عام 1948 وبدقة أكثر ما قبل ذلك بسنوات قليلة وتحديدا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وشهد الصراع مواجهات رئيسية مشهورة تاريخيا مثل هزيمة 1948 وانتصار 1956 وهزيمة 1967 وانتصار 1973.

وصفة الهزيمة أو النصر في كل هذه لأحداث أمر منفصل تماما عن النتائج السياسية المترتبة عن هذه الحروب والتي كان معظمها، للأسف، يتجه طوال الوقت لصالح العدو الصهيوني مهدرا كل البطولات والتضحيات التي قدمتها الجيوش والشعوب، فمن البداية يتميز هذا الصراع تحديدا باختلاف الموقف الشعبي عن الموقف الرسمي وبتعبير آخر موقف النظم الحاكمة، وتقدير البطولات ونضالات الجيوش فيه أمر منفصل عن التعامل السياسي معه.

مناضلون وأوغاد
يقول المناضل الراحل تشي جيفارا «الثورة يصنعها الشرفاء، ويرثها ويستغلها الأوغاد»، هذا تماما ما يحدث في معظم الدول التي ترزخ تحت وطأة النظم الفاشية وتفتقر شعوبها لخبرة المشاركة في الحكم والتمسك بالحقوق المدنية، ونفس المعنى ينطبق على حروب التحرير مع أي محتل، ويتطابق المعنى بدقة على الشعوب التي تخوض هذه الحروب تحت قيادة نظم فاشية فاسدة، وهنا يختلف معنى النصر بين الجبهتين: جبهة الشعوب التي ترى أن النصر في تحرير الأراضي وحمايتها وتحقيق الاستقلال بدافع الكرامة، وفي الطرف الآخر جبهة الحكام التي ترى أن الحرب هي تحريك المشاهد في اتجاه تدعيم استمرارها في الحكم وتحقيق مصالح الطبقة الحاكمة والفئات المحيطة بها، دون التركيز بشدة على ما تنشده الشعوب من حماية استقلال الوطن والحفاظ على أراضيه وتحريرها..
ولهذا فإن حدود النصر لدي النظم الحاكمة في هذه الدولة محدودة ومحكومة بسقف مصالحها، وأحيانا تتجه عمدا لتحجيم انتصارات جيوشها وشعوبها خوفا من هيمنة الشعوب بما يمثل ضررا على وجودها في الحكم.

1948
عقب انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وبعد مقدمات سياسية وتاريخية تفاصيلها كثيرة، تم إعلان دولة إسرائيل في فلسطين، وبدأت المواجهة العربية مع جيوش العصابات الصهيونية، ولم يكن هناك أي فرصة أمام الحكام العرب (وخاصة المرتبط حكمهم بالمصالح الاستعمارية) للمناورة أمام ضغوط الشعوب وحالة الاستنفار الشديدة التي كانت تحيط بها، وتم حشد الجيوش والجنود المتحمسين مدعومين بالمتطوعين من كل أنحاء المنطقة العربية، وانتهى كل هذا الحماس بالهزيمة أمام جيوش العصابات الصهيونية والتي كان عددها أقل بكثير من جيوش العرب، وتفاصيل أسباب الهزيمة في حرب 1948 كثيرة ليست موضوعنا الآن، ولكن أيها القارئ لك أن تعرف أنها كلها كانت تدور حول الخيانة من بعض الحكام العرب ومنها ما يتعلق بالأسلحة الفاسدة في مصر والتي راح ضحيتها الكثير من الجنود المصريين.

المهم أن هذه الحرب التي أطلقت عليها الأنظمة العربية بعد الهزيمة «النكبة»، شهدت بطولات وتضحيات كبيرة من الجنود العرب والمتطوعين وخاصة من الجنود المصريين ذكر أسماءهم الكاتب رفعت السيد أحمد في كتابه وثائق حرب فلسطين، ولم يكن هؤلاء الشهداء طرفا في المعادلات السياسية الملتوية للحكام بل كانوا مدفوعين بحماس وطني مدركين بفطرة سليمة نقية خطورة الوجود الصهيوني في المنطقة العربية.

وتعرف جيلنا على حرب 1948 من خلال الرؤية التاريخية بأنها النكبة، وضاعت تضحيات جنود الجيوش العربية والمصرية وتاهت ذكراهم في تفاصيل روايات الهزيمة ومبرراتها الواهية، هم أبطال لم نحتفل بتضحياتهم أبدأ؛ فالحكومات العربية لا تذكر من الأحداث إلا ما يتعلق بالترويج الدعائي لها.

1956
نشأنا في طفولتنا وصبانا نحتفل بذكرى انتصار الوطن عام 1956 على الاعتداء الثلاثي الذي استهدف مصر من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل عقب تأميم قناة السويس، وأصبح الرصيد التاريخي الأكبر للنصر من نصيب النظام الحاكم، رغم أن قائمة الشهداء الطويلة، وقصص تضحيات الفدائيين المدنيين التي تشير إلى أن وجودهم كان سببا في الصمود أمام هذا الاعتداء الباطش حتى جاءت نجدة الضغط الدولي لتنهي هذه الحرب الشرسة ..
 الشاهد أن صمود الجنود والمتطوعين كانوا السبب الرئيسي في عدم هزيمة مصر أمام العدوان الثلاثي، أما النصر المزعوم الذي ظل النظام يطنطن به طوال الوقت واستخدمه في ترسيخ أقدامه في الحكم بل ومبررا للديكتاتورية والعنف الشديد مع المعارضين، كان وراءه التدخل الدولي وتدخل الاتحاد السوفياتي والإنذار الأمريكي، وظلت احتفالات النصر في 1956 منسوبة للنظام الحاكم يحتفل بها كل عام ليؤكد وجوده ويقطع أي طريق أمام المعارضين له، بينما الأبطال الحقيقيون خارج الكادر تماما، فبماذا كنا نحتفل؟! وأين مردود هذا النصر العظيم على الشعب المصري وقد انهارت الجيوش بعده بعشر سنوات أمام العصابات الصهيونية نتيجة تهميش الشعب فلا توجد دولة قوية يعاني شعبها من القمع؟!

1967
عن زهو الانتصار العظيم الذي عشناه ما بين عام 1956 وانفجار بالونة الأوهام عام 1967 حدث ولا حرج، ما بين العامين عشنا في مصر أجمل أوهام عمرنا عن الجيش الذي لا يقهر، وحكايات الأبطال الأسطورية التي ليس لها علاقة بحكايات التضحيات الحقيقية، وكنت انفعل وأنا صبي بالأغنيات الوطنية في الاحتفالات بالثورة وبتأميم القناة وانتصار 1956. وكنا ننبهر باستعراضات الجيوش في شارع الجيش بالعباسية والعربات المدرعة والدبابات، واستقبلنا أجمل الأخبار بامتلاك الوطن لأول ثلاثة صواريخ مدمرة (القاهر والظافر والرائد) ..
وكنا نستمتع بالأغاني الوطنية التي تشيد بجيش مصري الذي يرعب الأعداء ويساعد الأمم الصديقة على الثورات، حتى اقتربنا من عام 1967 وحدثت احتكاكات خليج العقبة، ولم يهزنا موقف الأمريكان ولا الصهاينة أمام القوة العظيمة التي كنا نتوهم أننا نعيش تحت مظلتها، حتى أننا خرجنا لنكتب على الأسوار بثقة «سنلقي بإسرائيل في خليج العقبة»، و«يا جونسون غور بفلوسك عبد الناصر بكرة يدوسك»، وعشية 5 يونيو 1967 كان قادة الجيش يستمتعون بحياتهم تحت مظلة الثقة الشديدة في إمكانيات الجيش المصري، فالجميع صدق الكذبة حتى الذي أطلقها، وكان الجنود في مواقعهم مشحونين بحماس الدعايات المبالغ فيها، حتى انفجرت فيهم قنبلة الوهم صباح 1967.

ودون الدخول في التفاصيل أدرك الجميع الحقيقية المؤلمة فقد هزمنا في أسهل عملية عسكرية أمام العدو بسبب كاسات الوهم الوطني الذي كان النظام يسقيها لنا يوميا.

ولا تتصوروا أن الهزيمة لم تشهد بطولات بل على العكس كانت هناك المئات من تضحيات الجنود المصريين الذين استشهدوا قابضين على حماسهم ووطنيهتم، وفقد المئات منهم حياته ودفن المئات أحياء في رمال سيناء، ولكن الأنظمة لا تذكر أبطال معارك الهزيمة حتى لا تذكر الشعوب بخيبتها وفشلها.

6 أكتوبر 1973
وهي المعركة الأخيرة للنظام المصري مع إسرائيل، ليس لأنه حرر الأراضي المحتلة من وجودها، وإنما لتوافقه معها.

باختصار بعد هزيمة 1967 ومشاهد تنحي جمال عبد الناصر عن الحكم وعودته محمولا على أعناق الشعب وشروعه في بناء الجيش والاستعداد لحرب التحرير، وحرب الاستنزاف التي شهدت تضحيات وبطولات حقيقية من الجنود المصريين المتطوعين والمدنيين المتطوعين في المنظمات الفدائية وخاصة من أهل سيناء، ثم موت جمال عبد الناصر عام 1970 وتولي السادات الحكم، الذي كان مضطرا لاستكمال خطة حرب التحرير تحت ضغط المطالبات الشعبية التي لم تنس مرارة الهزيمة بعد، إلى أن بدأت الحرب في أكتوبر 1973 ونجحت مصر في استعادة أجزاء كبيرة من أرضيها المحتلة في سيناء، واعتبرت مصر أن هذا هو النصر الكامل ونقطة النهاية للصراع المصري الإسرائيلي، متجاهلة الأسباب التي دفعت المنطقة العربية كلها لمواجهة إسرائيل منذ عام 1948..  وبدأت خطوات الصلح المنفرد بين مصر وإسرائيل التي انتهت بالصلح مع إسرائيل بشروط أمنت حدودها ووضعتها في موقف أفضل من موقفها قبل حرب 1973..
وفي المضمون استفادت إسرائيل من تحريك الموقف بحرب 1973 بشكل يجعل ما منيت به في الحرب بعيدا كل البعد عن كلمة الهزيمة، وتم توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل في سبتمبر /أيلول 1975، ببنود معلنة وبنود سرية، وكلها موجودة وتم الكشف عنها، وفضحها ولا مجال لسردها في هذا المقال، ولكن ما يهمنا معرفته أن هذه البنود وهذا الصلح كان مقدمة للصلح بين إسرائيل وباقي الدول العربية وتفتيت جبهة المواجهة العربية، وكان نقطة انطلاق لإسرائيل للإجهاز على مقدرات المنطقة العربية كلها والتحكم في مقدراتها والسيطرة عليها واستكمال مسلسل الإبادة للشعب الفلسطيني، ووصل الأمر إلى أن رضاء حكومة تل أبيب أصبح أحد الشروط المرجحة لاختيار بعض الحكام العرب.

واليوم وإسرائيل تتحكم في مصير مصر من خلال مؤامرة سد النهضة، يقف النظام الحاكم الذي يتشدق رئيسه بحسن علاقته مع إسرائيل وحرصه على أمنها ليحتفل متفاخرا بنصر أكتوبر 1973، فهل تريدني يا صديقي الذي اتهمتني بعدم الانتماء أن احتفل معه وأتاجر بدماء وببطولات من ضحوا في هذه المعارك، أم أقف وأصرخ في وجه هذا النظام قائلا: هذا ليس نصرك بل نصر الجنود الذين ضحوا بحياتهم من أجل الوطن، ونصر الشعب الذي لم يذق أبدا طعم النصر بسبب خيانة الحكام وفساد الحكم.

أضف تعليقك