تعدُّ أيام الشدة أيام فرز وتقييم، يتميز فيها الخبيث من الطيب، والمخلص من المنافق. والثورة المصرية مثل كل الثورات تجد فى صفها الفاهم الواعى، كما تجد الجاهل والمنافق، وقد كان يوما 20، 27 سبتمبر الماضى جولة جديدة من جولات الثورة ظهرت خلالهما وبعدهما هذه الأصناف بجلاء. وإن كان ثمة تحذير فمن تلك الأصناف التى تُحسب على الثورة لكنها تمثل خطرًا عليها، بقصد وبدون..
من تلك الأصناف: «المُثَبِّطُ»، وهم الذين يقلِّلون من شأن الثوار، ويعظِّمون من شأن الانقلابين الأشرار، إن رأوا حسنة أخفوها، وإن رأوا سيئة نشروها، يصدرون إلينا الهزائم، ويبشرون بالنكسات، ويلتمسون المعايب والمآخذ فيمن يتصدرون المشهد، ويشككون فى كل خطة تدعو إلى الفعل والحراك. وهذا الصنف إما جهلة لا يعلمون من الثورات إلا اسمها ومن الصراع بين الحق والباطل إلا رسمه، أو أنهم منافقون أكل الحقد قلوبهم، أو من ذوى المصالح الذين قذفت بهم الأقدار فأخذوا مكانهم بين الثوار، لا ليكونوا داعمين، بل ليصبحوا مثبِّطين مقنِّطين، مثلهم كمن قالوا يوم الأحزاب (مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا) [الأحزاب: 12]، وقد زاد أحدهم: «وعدنا محمدٌ بكذا وكذا ولا يأمن أحدنا أن يقضى حاجته»، وهذا وضرباؤه لا يجدى معهم ردٌّ ولا يصلح معهم نقاش.
وهناك صنف آخر هو «الْمُحْبَطُ»، وهؤلاء لا ينقصهم الإخلاص، ولا يُشكُّ فى سلامة قلوبهم وصدق نياتهم، ولكن تنقصهم الثقة فى الله، فهم بحاجة إلى دروس فى التربية تحسم ترددهم، وتربط على قلوبهم، وتدفعهم إلى المواجهة دفعًا، مثلهم مثل المترددين من بنى إسرائيل الذين جبنوا وقالوا (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) [البقرة: 249]، فيقال لهم كما قال الرجلان اللذان أنعم الله عليهما: (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة: 23]؛ حتى تُزال من صدورهم الرهبة، ويحل مكانها الإقدام، فلا يغتروا بقوة الخصم، ولا يتأثروا بدعايته، ولا يهابوا قوته. وهؤلاء بالتفهيم يفهمون، وبالتعليم يتعلمون، فى جو محاط بالربانية، وفى وجود قيادة راشدة حازمة تتقدم الصف ولا تهاب الموت، مؤسسة لشعار (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ…) [محمد: 38].
وهناك صنف ثالث هو«الهائجُ المندفعُ»، وهؤلاء ذوو طيش ورعونة، ثائرون فى غير موضع الثورة، منحازون لآرائهم ووجهات نظرهم يغلِّبونها على سائر الآراء، وهم مع ذلك مخلصون، متجردون، لكنهم لا يقدِّرون عواقب الأمور؛ لعدم بلوغهم درجة الرشد، رأيناهم فى اليومين المذكورين يرغون ويزبدون، ثم مع انتهاء زخم الجولة لم نعد نرى منهم أحدًا، فهم عند المواجهة والاصطدام بالواقع ينهارون سريعًا ولا يلوون على شىء، وربما أصابهم الهلع فانقلب أحدهم على عقبيه ناعيًا ما كان عليه. وهؤلاء يحتاجون إلى دروس فى الصبر والأناة، وفى التوازن والقصد، وأن تكون نظرتهم للأمور أبعد وأعمق.
وهناك صنف رابع هو «المغرورُ»، وهو الحالم، الساذج، البعيد عن واقع وطبيعة المعركة، وأدواتها، وأطرافها لا يدرك كنه الصراع بين الحق والباطل، ويظن هذا الصراع إذا حل ساعة لا يحل أخرى، وأن هذه الساعة له وليست عليه، وهذه خطيئة؛ إذ الأمر أكبر من أن يستوعبه أفقه الضيق وخيالاته الفارغة. وهؤلاء عكس الصنف الذى يخشى قوة الخصم ويتأثر بدعايته واستعراض قوته؛ فهم يستهينون بهذا الخصم، ولا يقدِّرون آثار مواجهته، وهم على هذا الفهم والإدراك الخاطئ ينشرون الأكاذيب على أنها حقائق، ويروجون الشائعات باعتبارها مسلَّمات، وقد استدرجوا الناس خلال اليومين المذكورين إلى موضع نهاية الشوط وختام السباق؛ فإذا بهم لا يزالون فى وسط الحلبة؛ ما فتَّ فى عضد الجماهير الطيبة وأوجدها على أصحاب هذه الدعايات، بل غيَّر رأيها فى الثورة جميعًا، وهذا يوضح خطر هذا الصنف وتشوش فهمه رغم إخلاصه ونقاء صدره.
وهناك صنف خامس وسادس وعاشر لا يتسع المقام لذكرها. أما واجب الثوار فهو أولاً؛ عدم التأثر بتلك الأصناف وإلا دخلنا معارك خاسرة، أو أحجمنا عن وقائع محسومة لنا، وثانيًا؛ أن يتولى المفكرون والخبراء والمربُّون ضبط النغمة، وتصحيح النشاز، بالتعليم والتدريب، والتذكير والإشارة، بعيدًا عن النقد والتجريح، والنقض والهدم؛ فهؤلاء أبناء الثورة المخلصون -باستثناء الصنف الأول-؛ هم فقط يحتاجون إلى تنمية الوعى والمعرفة، وهدايتهم إلى ما فيه نفع دينهم وأوطانهم (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا..) [النساء: 94].
أضف تعليقك