بقلم.. طارق الكحلاوي
"يجب أن نتذكر أنه لا يوجد شيء أكثر صعوبة في التعامل معه، أو أنه أكثر خطورة في السلوك، أو أنه غير مؤكد في نجاحه، من أخذ زمام المبادرة في إدخال نظام جديد للأشياء؛ لأن المجدد لديه من الأعداء كل أولئك الذين حققوا مكاسب في ظل الظروف القديمة. وفي المقابل، المدافعون عنه هم مدافعون فاترون، وهم أولئك الذين قد يحققون مكاسب في ظل النظام الجديد. ينشأ هذا البرود جزئياً من الخوف من المعارضين، الذين لديهم قوانين إلى جانبهم، وجزئياً من عدم تصديق عموم الناس الذين لا يؤمنون بسهولة بأشياء جديدة حتى تتكون لديهم خبرة طويلة بها" (نيكولو ميكافيلي في كتاب "الأمير").
أعتقد أنه إذا كان هناك نموذج لوضع قديم مستديم لا يقبل التغيير، ويستعصي على التجديد، فهو وضع هيمنة النظام العسكري على مفاصل الدول الحديثة في مصر، والذي استطاع التأقلم والتفاعل مع كل المتغيرات. وربما كانت الخطيئة الأبرز للرئيس المصري الراحل محمد مرسي ومن ورائه قيادة الإخوان؛ هي أولا الشراكة مع الجيش، وثانيا محاولة تطويع الجيش بدون خطة دقيقة واضحة. لقد تم لمس عش الدبابير المصري الأساسي، وأتذكر أنه في لقائي مع نائب المرشد محمود عزت في المقطم، على هامش زيارة الوفد الرئاسي التونسي لمصر في تموز/ يوليو 2012؛ كان سؤالي الأساسي هو حول هذا الموضوع، ولم تكن الإجابة تعكس ضرورة وضوح في الرؤية.ومع كل الدراسات التي حدثتنا على هيمنة الجيش في مصر تبدو الدراسة الأخيرة لكبير باحثي مركز كارنيغي يزيد صايغ الأدق.
ففي تقرير مطول ومعمق (أكثر من 300 صفحة) بعنوان "ملاكو الجمهورية: تشريح الاقتصاد العسكري في مصر"، يشرح يزيد صايغ الاقتصاد العسكري في مصر. ومن الواضح أن المؤسسة العسكرية مثلما يقول صايغ "تنتج مهندسين جيدين ولكن اقتصاديين سيئين"، بما أنها تقوي هياكل الاقتصاد الريعي وتضر بالقدرة الإنتاجية لقطاعات مهمة. والتقرير في خلاصته يؤكد أن الهيمنة السياسية للعسكر تقوي هذا الدور الاقتصادي السلبي، وهو مثال آخر على أن الاستبداد السياسي عامل أساسي في تعطيل التنمية وترسيخ التخلف.
الدراسة في سبعة فصول مع مقدمة وخاتمة. الفصل الأول "تمكين الاقتصاد العسكري"، الثاني "رسم خريطة للاقتصاد العسكري الرسمي الجزء الأول: "قلعة" الصناعة المصرية"، الثالث "رسم خريطة للاقتصاد العسكري الرسمي، الجزء الثاني: نبني مصر، ونطعم مصر، نحن مصر"، الرابع "رسم خريطة للاقتصاد العسكري غير الرسمي: جمهورية الضباط"، الخامس "الجنود ورجال الأعمال"، السادس "منظومة عسكرية غير محدودة: التحول في عصر السيسي"، السابع والأخير "وراء الحجاب: إدارة الشؤون المالية".
هيمنة الجيش ليست فقط عائقا أمام الديمقراطية، بل أيضا أمام التنمية
يستهل صايغ دراسته بتحري دقيق عن حقيقة هيمنة الجيش على الاقتصاد. حيث يقول: "إن التقديرات التي تقول إن المؤسسة العسكرية تسيطر على 25 أو 40 في المئة، أو حتى 60 في المئة من الاقتصاد، رائجة بكثرة، لكنها تستند إلى القليل من البيانات وحتى التحليل الأقل منهجية". يواصل صايغ: "النسب المئوية التي استشهد بها السيسي وغيرها تبدو قريبة من الحقيقة. ولكن حتى إذا تم اعتبارها مؤشراً فقط، فإنها لا تزال تشير إلى قيمة إجمالية كبيرة. كان نصيب الاقتصاد العسكري من إجمالي الناتج المحلي في ذلك الوقت يتراوح بين 3.32 مليار دولار و6.64 مليار دولار، وذلك باستخدام النسب المئوية لصندوق النقد الدولي (IMF) للناتج المحلي الإجمالي الاسمي، البالغ 332 مليار دولار في السنة المالية 2015-2016".
ويختم في هذه النقطة: "تمثل نسبة إسهام الجيش المصري في الاقتصاد القومي أقل بكثير مما يعتقده الجميع، لكن سيطرته على السلطة في عام 2013 وما تلاه من صعود الرئيس عبد الفتاح السيسي حولت دوره في كل من النطاق والحجم إلى ممثل مستقل يمكن أن يعيد تشكيل الأسواق والتأثير على وضع السياسات الحكومية واستراتيجيات الاستثمار".
ويضيف هنا: "يقدم الجيش مشاريع ضخمة للبنية التحتية، وينتج سلعا استهلاكية تتراوح من الغذاء إلى الأجهزة المنزلية، ويقوم بتصنيع الكيماويات الصناعية ومعدات النقل، ويستورد السلع الأساسية للأسواق المدنية. وقد توسع ليشمل قطاعات جديدة متنوعة مثل التنقيب عن الذهب، وإنتاج الصلب، وإدارة الأوقاف الدينية والحج. في موازاة ذلك، يستفيد الآلاف من كبار الضباط المتقاعدين من النفوذ السياسي القوي للجيش لشغل مناصب عليا في جميع أنحاء الجهاز المدني وشركات القطاع العام بالدولة، مما يكمل الاقتصاد العسكري الرسمي بينما يستفيدون منه".
خلاصة صايغ الأهم تتعلق بالغطاء الغربي المخزي للهيمنة الدموية للمؤسسة العسكرية وآثارها الاقتصادية السيئة استراتيجيا، حيث يقول التالي: "تتجاهل تقييمات وردية لمؤشرات الاقتصاد الكلي في مصر، صادرة عن المسؤولين المصريين ونظرائهم في الحكومات الغربية والمؤسسات المالية الدولية، المشكلات الأساسية المتمثلة في تدني الإنتاجية والابتكار، وقلة القيمة المضافة وعدم كفاية الاستثمار في معظم القطاعات الاقتصادية. ربما كان هؤلاء المسؤولون يأملون أن يتمكن السيسي من بناء دكتاتورية تنموية ناجحة بطريقة أو بأخرى، وهو ما يفسر لماذا يتغاضون عن العواقب الاجتماعية للنهج الاقتصادي لإدارته، وقمعها الشديد للحريات السياسية والاجتماعية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. والنتيجة الطبيعية هي الإيمان بأن الجيش هو فاعل ومدير اقتصادي جيد كما يدعي، وأنه سينسحب من الاقتصاد كلما ينمو الأخير. ومع ذلك، تشير الاتجاهات الحالية إلى أن السيسي سيظل رهينة للشركاء الرئيسيين في الائتلاف الحاكم، بما في ذلك الجيش الذي يقود مشاركته في الاقتصاد".
أضف تعليقك