• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

الأستاذ عبد البديع صقر "رحمه الله" له دور كبير للنهوض في مجال التربية والتعليم، حيث ببركة جهوده انتشرت المدارس في دول الخليج العربي وبخاصة قطر، وشاعت الثقافة وتطورت بشكل ملحوظ بجهوده وجهود إخوانه الذين اختارهم لهذه المهمة وقاموا بها خير قيام.

مولده ونشأته

وُلد سنة (1334هـ / 1915م) في بلدة كفر صقر التابعة لمركز أبو كبير ونشأ في قرية بني عياض من عائلة عربية معروفة، وكان متأثرًا بوالده ورجال قريته من الفلاحين الذين عركتهم التجارب.

ثم انتقل إلى القاهرة والتحق بكلية الآداب، وكان يقول: إنه لم يستفد منها سوى ورقة الشهادة الرسمية. وقد استفاد من كتب السيد محمد رشيد رضا والأستاذ محب الدين الخطيب، إضافة إلى التزامه الإمام الشهيد حسن البنا الذي عمل معه مدّة طويلة في المركز العام للإخوان المسلمين وكان قريبًا منه.

كان من أوائل من التقيت بهم في مصر أواخر عام 1949م، فقد اجتمعت معه في منزل أحد الإخوان، وحين حان وقت الصلاة، قدموه للإمامة، ولفت نظره وجود صورة على الحائط، فما كان منه (رحمه الله) إلا أن سترها، ثم أدينا الصلاة، فأدركت من وقتها أن الأستاذ عبد البديع صقر ذو نزعة سلفية، يحرص على الالتزام بما صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وما سار عليه السلف الصالح.

ثم تكررت لقاءاتي به في مصر طيلة فترة دراستي الجامعية، وتجددت بعدها في أماكن، وأقطار عدّة، كالكويت والإمارات وقطر ولبنان والسعودية، واستمعت إليه متحدثًا في اجتماعات كثيرة مصغرة وأخرى موسعة، وقرأت كتابه القيّم (كيف ندعو الناس؟) الذي ألَّفه سنة 1940م وأهداني نسخة منه بخط يده ذيلها بتوقيعه وكتب التاريخ الهجري والنصراني «بدل الميلادي».

مواقفه وخدماته

ولقد سمعت من كثير من الإخوان المسلمين عن مواقفه الكريمة مع إخوانه المعتقلين في معتقل الطور سنة 1948م، حيث كان يتولى حلاقة رؤوسهم والقيام بخدمة كبار السن والمرضى، بل يقوم بالكثير من مهمات التنظيف التي يأنف منها البعض، وهذا لفرط تواضعه وحرصه على الأجر والثواب.

من الرعيل الأول

والأستاذ عبد البديع صقر من الرعيل الأول الذي التحق بالإخوان المسلمين عام 1936م، وتربى على يد الإمام الشهيد حسن البنا، وعمل معاونًا لدار الإخوان المسلمين في القاهرة، وهو شديد التواضع تغلب عليه النشأة الريفية التي لم تفارقه طيلة حياته، فهو لا يحب التكلف لا بالقول ولا بالعمل، وميَّال إلى الصراحة والنصح بكلمة الحق دونما تهيّب أو وجل، كل ذلك بأدب الإسلام وبالأسلوب الحكيم وضوابط التوجيه الإسلامي في بذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان (رحمه الله) داعية موفقًا يحسن التودد إلى المدعو ويحاول بأسلوبه الحكيم وعباراته الرقيقة وطريقته المقنعة الوصول إلى قلب من يحدثه وعقله، ويورد أثناء الحوار معه بعض النكات والطرائف التي تزيل الوحشة، ويتدرج معه حتى يأخذ بمجامع مسامعه ويشده إليه فيتقبل المنصوح نصيحته وتوجيهه ويشاركه هموم المسلمين ويبدي استعداده للسير معه في طريق الدعوة إلى الله لإنقاذ الأمة الإسلامية مما هي فيه من حالة الضياع والشتات والانحطاط والتردي.

التحاقه بالإخوان المسلمين

يصف التحاقه بالإخوان المسلمين فيقول:

«حين دخلتُ دار الإخوان المسلمين بميدان العتبة بالقاهرة سنة (1356هـ / 1936م)، وجدتُ الإمام البنا يخطب في الحاضرين فيقول: لقد نجح المستعمرون في تثبيت الفصل بين الدين والدنيا، وهو أمر إذا صح في دينهم فلا يصح في ديننا، فلماذا يكون رجل الدين بعيدًا عن السياسة، ورجل السياسة بعيدًا عن الدين؟! ثم ما هي السياسة؟ أليست هي التعليم والتربية وتوزيع الأرزاق وتوفير الأمن والعدل للأمة في الداخل والخارج؟ وإذا كانت الوزارات تمثل السياسة فقد نجد اختصاص ست وزارات داخلاً في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } (النحل:90)». انتهى.

ومن وقتها توثّقت صلة الأستاذ عبد البديع صقر بالإخوان المسلمين، وصار من دعاتهم البارزين، وعضوًا من أعضاء الهيئة التأسيسية، وقد صاحب الإمام البنا ولازمه مدة اثني عشر عامًا.

رواياته عن الإمام البنا

يروي الأستاذ عبد البديع صقر عن مواقف حصلت مع الإمام الشهيد حسن البنا فيقول: «.. سألناه يومًا: لماذا لا توجد لك مؤلفات كبيرة؟ فقال: أنا مشغول بتأليف الرجال.. ثم هم يؤلفون الكتب.

إنه لا يستطيع أحد ممن عاشروا الأستاذ البنا أو اتصلوا به؛ أن يذكر أنه كذب في قول أو خان أمانة أو نقض عهدًا طيلة حياته.

والأهم من ذلك، هو صدقه مع نفسه، ومع ربه (عز وجل)، فعندما شرع في بناء مسجد للإخوان ودار للشعبة والمؤسسات التابعة لها في الإسماعيلية، كتب على نفسه كل الدّيون المستحقة للمقاولين. وعندما عزم الإخوان على شراء القصر الذي بالحلمية ليكون المركز العام للإخوان المسلمين؛ كتب على نفسه كل الدّيون.

وكنت معه ذات مساء، وكان متوجهًا لمقابلة عبد الرحمن عزام (أمين عام جامعة الدول العربية) فقلت له: إن عباءتك البيضاء فيها بقعة. فقال: بقعة خير من رقعة، لقد كان في ثياب مشايخنا ومن هم خير منا أكثر من رقعة.

لقد استطاع الأستاذ البنا - مع شدة الأحداث أيام حرب فلسطين - أن ينقل استعداد أعضاء الجماعة للتضحية من القروش العشرة والعشرين إلى (خمس الإيراد) فقدّم للهيئة التأسيسية مشروع (سهم الدعوة) وبدأ بنفسه (رحمه الله) ثم تتابع الإخوان.

قال له أحد الإخوان: نريد أن تعلّمنا الخطابة وفنون الدعوة. فأجاب: سيروا في القرى وطرقات الأرياف، مرة في اليابس ومرة في الطين، وخالطوا هذا الشعب المؤمن؛ وعندها يفتح الله عليكم وهو الفتّاح العليم.

وجاء مرة مؤلف يطلب منه أن يكتب تقريظًا لكتاب أسماه (لماذا أنا مسلم؟) وكان الأستاذ البنا يعرف المؤلف شخصيًا فسأله: قل يا فلان هل تقيم الصلاة؟ قال: بصراحة لا.. قال الأستاذ البنا: إذن لماذا أنت مسلم؟. أعفني من هذا الأمر.

وما زال المؤلف يُلحُّ عليه، حتى كتب مقدمة للكتاب ليست فيها إشارة للكتاب ولا للمؤلف إنما كانت المقدمة عن جمال الإسلام وتعاليمه.

دُعيَ مرة إلى حفل عزاء أُقيم لوالد أحد الإخوان - وقيل له إن المتوفى كان سكّيرًا ولا يصلي ولا يصوم - فتحرّج الأستاذ البنا عن إطرائه وتأبينه، فكان مما قاله: كان المتوفى (رحمه الله) لا يجاهر بمعصية الله، وكان إذا خوّف من الله خاف.

ومرة سأل الإمام البنا أحد الإخوة عن اسمه فقال: عبد الرسول.

فقال الإمام البنا: سمّ نفسك عبد الصبور؛ فليس للرسول عباد.

كان أحمد حسنين باشا رئيسًا للكشافة المصرية، وقد حضر استعراضًا لكشافة الإخوان المسلمين فلاحظ وجود تشكيلة من الشباب والعجائز وذوي اللحى، وكان جمعًا كثيفًا، يتقدّمهم حملة المصاحف الكبيرة. فقال حسنين للمرشد البنا: كيف جمعتم هؤلاء من أقصى البلاد؟. إننا في الكشافة المصرية نقدّم لهم كل التسهيلات والملابس والنفقات، ولا يجتمعون علينا إلاّ بشقّ الأنفس.. فماذا فعلت مع هؤلاء؟ فضحك الإمام البنا وقال: شيء يسير جدًا.. قلنا لهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فجاؤوا وعلى نفقتهم الخاصة». انتهى.

نشاطه في الخليج

إن الداعية عبد البديع صقر عَلَم من أعلام الحركة الإسلامية المعاصرة شاع ذكره في العالم العربي والإسلامي، وأحبه كل من عرفه، لصفائه ونقائه وصدقه ووضوحه وإخلاصه وعمله وجهاده وتضحيته، وكانت آثاره واضحة جلية في منطقة الخليج بعامة وفي قطر بخاصة منذ قدم إليها من مصر عام (1374هـ / 1954م).

يقول عنه الأستاذ حيدر قفة في كتابه القيّم (وفقيد آخر):

«كان الأستاذ عبد البديع صقر إذا نزل (دبي) أقام في قصر حاكم قطر (السابق)، وأردت دعوته إلى بيتي للمبيت في ضيافتي ليلة واحدة، وكنت متخوفًا من رفضه لكثرة مشاغله وكثرة المحبين الراغبين في استضافته، ولكنه لبّى دعوتي، ووافق على أن يترك غرفته في القصر المنيف ذي الأثاث والرياش لينام عندي في بيتي المتواضع في (عجمان)، ولما أصبح الصباح ذهبت لأطرق عليه باب الغرفة التي ينام فيها، وإذا به قد استيقظ قبل الفجر يتهجّد ويقرأ القرآن، ولما صلينا الفجر وبعدها تناولنا طعام الإفطار ذهب ليغسل يديه ويجدد وضوءه، ولما فرغ أخذ يغسل حوض المغسلة، فقلت له: يرحمك الله دعها، فقال: تعودت بعد الفراغ من الوضوء أن أغسل حوض المغسلة لتبقى نظيفة دائمًا» انتهى.

لقد عمل الأستاذ عبد البديع صقر فترة طويلة في قطر والإمارات، فكان مديرًا للمعارف بقطر، ثم مديرًا لدار الكتب القطرية، ثم مستشارًا ثقافيًا لحاكم قطر، وقد بذل قصارى جهده لنشر التراث الإسلامي وأمهات الكتب الفقهية وغيرها، وكان يشير على حاكم قطر السابق علي بن عبدالله آل ثاني، ثم من بعده ابنه أحمد ابن علي آل ثاني، بطباعة تلك الكتب القيّمة التي عزّ وجودها بين أيدي الناس فيستجيب الحاكم لطباعتها على نفقته حسبة لله تعالى.

احترام أمراء الخليج له

وكان معظم أمراء الخليج يجلّون الأستاذ عبد البديع صقر ويقدرونه ويحترمونه، فضلاً عن محبة العامة وجماهير الناس له، لحسن خلقه وتواضعه وخدماته الكثيرة، وقد عرفوه متحدثًا ومحاضرًا وخطيبًا وواعظًا وكاتبًا ومفكرًا ومصلحًا وداعية، ومن أجمل صفاته أنه يحب التعارف مع المسلمين وإن لم يكن له سابق معرفة بهم، كان يقدِّم نفسه لهم ويتعرف إليهم لأن أساس دعوة الإخوان المسلمين هو الحب والتعارف، كما ذكر ذلك الإمام الشهيد حسن البنا في رسائله.

أذكر أنني حين كنت في الكويت دُعيت إلى الإمارات لإلقاء محاضرة في جمعية الإصلاح في (دبي)، وعقب المحاضرة أمطرني الجمهور بسيل من الأسئلة الكثيرة قاربت مدتها مدة المحاضرة، وحين توقفت عند أحد الأسئلة بادر (رحمه الله) بالجواب عني.

يذكر بعض العارفين لأحواله أنه حين كان مديرًا للمعارف في قطر، كان يشرح على طلب الإجازة للوفاة بعبارة: «مع الموافقة على منحه ثلاثة أيام وعظم الله أجره وأحسن عزاءه وغفر لميته» ويشرح على طلب الإجازة للزواج «مع الموافقة بارك الله في عروسه وبارك لها فيه وجمع بينهما في خير».

ويُروى عنه (رحمه الله) أن أحد ضباط المباحث الذين منّ الله عليهم بالهداية قال للإخوان: «كنا نرسل بعض المخبرين للتجسس على الإخوان، إلا أننا لا نلبث حتى نفقد الثقة فيمن نرسلهم لإحساسنا بتحولهم وتبدلهم لاحتكاكهم بالإخوان المسلمين حتى تعبنا وأعيانا الأمر، فاخترنا رجلاً شريرًا وقلنا هذا سهم نضرب به الإخوان يستعصي على الكسر، ومضت الأيام وبعد أسبوع واحد فقط، وإذا بهذا المخبر يدخل مكتبي وطلب نقله من عند الإخوان قائلاً: «ودُّوني عند الشيوعيين، عند اليهود، عند الكفرة، أما أولاد... «دول لأ» فعجبت من أمره وسألته: لماذا؟ قال: «كل ليلة يقومون ويصلون، وشيخهم يقرأ القرآن لهم، الركعة تجي ساعة، معدتش قادر أصلب طولي» انتهى.

ونشر الصحفي الروائي إحسان عبد القدوس في مجلة روزاليوسف يقول: «لو عطس حسن البنا في أسوان، لقال له الإخوان في الإسكندرية: يرحمك الله».

وفاءً للزملاء

إن الأستاذ عبد البديع صقر من الأوفياء لإخوانه، البار بزملائه، وكان يتفقدهم ويتعهدهم بالزيارة والسؤال عنهم أو مراسلتهم مهما شتَّتْ بهم الأقطار، ومن هؤلاء الدكتور سعيد رمضان (رحمه الله) زوج ابنة الشهيد حسن البنا الذي يقيم في جنيف مُطاردًا من طاغوت مصر الذي أسقط عنه الجنسية وحكم عليه بالإعدام غيابيًّا، فكان الأستاذ عبد البديع صقر يتعهده بالزيارة والسؤال عنه.

وفاته

وقد انتقل (رحمه الله) إلى جوار ربه مساء يوم السبت (12 من ربيع الأول 1407هـ الموافق 13/12/1986م)، في مصر حيث توجه إلى مدينة بلبيس بالقرب من مدينة الزقازيق بعد إلقائه محاضرة دعوية، فمات وهو يقود السيارة، فانحرفت به إلى جانب الطريق وسقط في مجرى مائي، ولم يدركه الناس إلا في وقت متأخر، حيث حُمل إلى المستشفى، وغُسِّل ودُفن إلى جوار زوجته (أم إبراهيم) التي سبقته إلى الدار الآخرة قبل أكثر من عام.

أضف تعليقك