بقلم: د. محمد الصغير
أحدث خبر وفاة الرئيس المخلوع حسني مبارك ارتباكا في مشاعر بعض المصريين، ولم ينقسموا إلى فسطاطين كالعادة، وظهرت جملة من المتناقضات دلت على غبش في مرآة العواطف، وعوج في طريقة التفكير نتج عنه ضياع البوصلة وانحراف السلوك!
لم أكن لأتوقف كثيرا عند موت حسني مبارك لأن الموت قانون يسري على الصالح والطالح، وبمنطق الدنيا فقد شبع منها مبارك وحصل ما فاق أحلامه وطموحه، وحسابه على الله تعالى الذي سيحاسبه على النقير والفتيل والقطمير، وقد ذهب محملا بمظالم تكسر ظهر البعير، ما تحللها من أصحابها ولا أعلن الندامة عليها.
لكن الحفاوة المبالغ فيها من النظام وأذرعه الإعلامية وحالة (الشحتفة) غير المبررة التي ظهرت على ضحايا عهده أوجبت تجلية الأمر، والتحذير من خلط اللبن بالخمر.
بالوراثة:
حسني مبارك الذي آل إليه حكم مصر بالوراثة العسكرية من دون أدنى دراية ولا دراسة لقواعد الحكم أو أصول السياسة، وجثم على صدور المصريين ثلاثين سنة من دون انتخاب ولا اختيار بعدما عبث بالقوانين وعدل الدستور، وأسس لمنظومة فساد تحت سقف من الاستبداد قل نظيره، فأفقر الشعب وباع أصول الدولة والقطاع العام بأبخس الأثمان، بعد أن تكونت حوله وبرعاية أولاده عصابات من المستفيدين ورجال الأعمال المتنفذين، ونقل الثالوث المقدس من عقائد النصارى إلى أروقة الحكم فأصبحت الرياسة مثلثة بين الأب والابن والسيدة والدته، ولكل منهما حاشيته وزبانيته.
انتهت في زمن حسني مبارك منظومة التعليم التي كانت مصدر فخر المصريين وتفوقهم، وعمت الأمراض المستعصية نتيجة المبيدات المسرطنة التي قضت على الزراعة وصحة المصريين في ضربة واحدة، وأكل المرض أكبادهم حتى أصبحت أعداد المصابين بمرض الكبد الوبائي نسبة من الشعب تقدر بالملايين، وانتشر السرطان في المجتمع بكل طبقاته حتى خُصصت المشافي لمرضى سرطان الأطفال!
وليس سرطان الأبدان بأشرس من سرطان الحزب الوطني الذي انتشرت خلاياه في المجتمع وأفسدت كل ما فيه، وقضت على البقية الباقية من الحياة السياسية، وكرس الحزب بعدما أُتْرع من السلب والنهب كل طاقاته لإنجاز مشروع التوريث، حيث تعامل مبارك مع مصر وشعبها كعزبة أو شركة يسعى لتوريثها لابنه من بعده، الذي أصبح ولاء الحزب له، والوزراء يعينون بمشورته ويأتمرون بأمره.
أما عن تقزيم دور مصر خارجيا، ودورانها في فلك التبعية لبعض الدول العربية فكان نتيجة طبيعية لافتقار حسني مبارك لأيٍ من صفات الزعيم أو كاريزما القائد، لاسيما مع وجود جيل من الحكام تعاملوا معه يوم أن كان سكرتيرا بدرجة نائب في مكتب أنور السادات.
أما قانون الطوارئ والإجراءات الاستثنائية التي حكم بها طيلة عهده، والاعتقالات لعشرات الآلاف من الشباب الذين شابوا في سجونه التي توسع فيها، وجعل منها سلخانات قتل وتعذيب، ويكفيه سجن العقرب ذائع الصيت، وهذا باب إذا فتح احتاج إلى كتاب! فأقل ما رأيته في سجون مبارك أن شبابا ماتوا من شدة حَك جلودهم من الجَرَب، ومنهم من سَعَل حتى مات من الدرن.
ومات أحد مرضى السكر في سجن الوادي الجديد فتركوا جثته ثلاثة أيام ليعذبوا بها الأحياء، ورفض شاب صعيدي أن يتسمى باسم امرأة فأمر الضابط جنديا فبال في فمه فمات بعدها كمدا.
كان عتلا عنيداً:
مبارك كان مستبدا بليدا عتلا عنيدا لا يعبأ بشرع الله ولا يقف عند حدوده، يوالي أعداءه ويعادي أولياءه، سجن الشيخ علي القطان خمسة عشر عاما بمساعدة السعودية لأنه قال له (اتق الله) في المسجد النبوي الشريف!
حسني مبارك الذي حاصر غزة وكان سمسارا لكل صفقات التطبيع الرخيص حتى وصفه الصهاينة بالكنز الاستراتيجي في حياته، وأعلنوا حزنهم عليه بعد وفاته، كيف ترفع صوتك بالثناء عليه وقد التقم البوق قبلك بنيامين نتانياهو؟
ويأتي بعد هذه القطرات من بحر سيئاته الزاخر من يقول (اذكروا محاسن موتاكم) أين هي محاسن فقد قتلها وأخواتها، واعتقل كل ما يمت لها بصلة؟
وإذا كان مبارك له محاسن وتحركت له عواطف فلماذا خرجتم عليه وخلعتموه في ثورة يناير التي قَتَل فيها أكثر ثمانمئة من الورد الذي فَتّح في جناين مصر، وأزهر في ميدان التحرير، أنسيتم موقعة الجمل يا معاشر الثوار "التايواني"؟
ولولا أن الجيش وجدها فرصة للتخلص من مشروع التوريث لفعل بثوار التحرير ما فعله بعد ذلك في رابعة بالمعتصمين، ولمّا تم له المراد حاكم العسكر رئيسهم محاكمة شكلية وتمت تبرئته لاحقا، وكل المفسدين من أركان حكمه، وكان واضحا أن إدانة مبارك وأولاده بالسرقة والرشوة في قضية القصور الرئاسية مقصود منها قطع كل آمالهم في الترشح للرئاسة مستقبلا، ونفس النظام الذي أدان مبارك في قضية مخلة بالشرف، وحكم عليه بثلاثة أعوام هو الذي أقام له جنازة عسكرية ضخمة! فهل حسني مبارك حرامي ومختلس أم رئيس سابق وصفحته بيضاء؟
لا تسأل في مصر عن أي أمر يتعلق بالدفاتر لأن الورق ورقهم والدفاتر دفاترهم، والعصبية العسكرية أقوى مما سواها.
وفي هذا أبلغ رد على من يَحنُ إلى أيام مبارك فهذا الأيام امتداد لها، وهؤلاء تلاميذه وصبيانه وعندما جد الجد (كل شيء انكشف وبان).
لكن الذي ليس له تفسير ولا تبرير أن يتباكى على مبارك بعض ضحاياه المباشرين، وهذا يدل على قمة الهزيمة النفسية، ويُنْبي عن نزعة ذل وبقايا عبودية، عبر عنها المثل العامي القائل (القط يُحب خَنَّاقُه)!
أما عن حرب العبور فقد أدى فيها مبارك عمله المكلف به، وأنفق عليه الشعب من أجل هذه اللحظة، ولو طُلب منه غير ذلك لفعل، والدليل متابعته للسادات في خيانة كامب ديفيد، وقتل سليمان خاطر دون محاكمة إرضاء لليهود، وبيع الغاز بأبخس الأثمان.
أما عن شرف العسكرية المصرية التي تقلد أعلى رتبها، فقد كان أعلى منه رتبة، ورئيسا مباشرا له في حرب أكتوبر قائد الأركان الفريق سعدالدين الشاذلي الذي سجنه مع كبر سنه ومنزلته بعد خمسة عشر عاما قضاها منفيا لمعارضته لما قام به السادات!
وختاما فحديث (محاسن موتاكم) ضعيف، والصحيح ما أخرجه البخاري ومسلم أن الصحابة أثنوا خيرا على جنازة مرت، وأثنوا شرا على الأخرى فلم يُثَرِّبْ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به) رواه مسلم.
وقال العلامة الزمخشري في تفسير قول الله تعالى:
(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إيذانٌ بوجوب الحمد عند هلاك الظالمين، وأنّه من أَجَل النعم.
اللهم لك الحمد يا رب العالمين
أضف تعليقك