مثلما أحدثتْ شللاً فى العالم كله، وفككته، وأظهرت وهنه وفضحت قوته -استدعت “كورونا” الانقسام فى المجتمع المصرى من جديد، والذى صنعه انقلاب (2013)؛ فجعل الشعب شعبين، والأسرة أسرتين، وأصبح الأخ يعادى أخاه، والوالد يتبرأ من ولده ..
لقد غذَّى العسكر هذا الانشقاق بسلوكياتهم المشينة؛ حيث ألَّبوا نصف المجتمع على النصف الآخر، وحرّضوا عبيدهم على التنكيل بخصومهم؛ حرصًا منهم على أن تخلص لهم السلطة ولو ذهب الجميع إلى الجحيم. ولقد سخروا إعلامهم الكذوب لهذه المهمة حتى كادت تكون حربًا أهلية، وهل ينسى التاريخ أغنية: (انتو شعب واحنا شعب) التى أنشدها الناصرى على الحجار، أو أغنية المجموعة: (تسلم الأيادى)، وغيرها من الأعمال العنصرية التى أشعلت نار الغضب والنقمة فى النفوس، واستنفرت كل فريق من الفريقين لحرب الآخر؟
ولا أعاد الله أيامًا كان الجيران يبلِّغون عن جيرانهم لأنهم يشاهدون قناة الجزيرة! أو أن أحد أبنائهم يحافظ على الصلوات فى المسجد! أو أنهم يتجهزون للانتقال إلى مسكن آخر، ولعن الله نظامًا استرخص الدماء، فأوقع العداوة بين الناس، وأعطى الرخصة لأتباعه للتجسس على الآخرين ومراقبتهم، فاستباح بذلك الحرمات، وأوغر الصدور، وكرّس ثقافة الانتقام فى مجتمع هو أحوج ما يكون إلى لم الشمل والاجتماع.
رأيتُ يومًا جارًا لى، وهو أستاذ جامعى، يلتقط أرقام سيارة نقل تحمل (عفش) جار آخر مطارد، وكان الاثنان يصليان فى مسجد واحد، وما عُلم عن (المطارد) إلا كل خير، وما كانت بينهما عداوة سابقة.. ثم لم تمر ستة أشهر حتى ذهب (الأستاذ الجامعى) لزيارة ابنته الوحيدة (طبيبة)؛ فما إن فتحت له الباب حتى سقطت على صدره، ثم لم ترفع رأسها ثانية، ماتت على صدر أبيها.. فرأيتُ الشماتة فى نفوس الكثيرين، وما استطعت معاتبتهم.
ومثل هذه القصة تكررت كثيرًا، فالذى حرق والذى اعتدى والذى أيّد.. دارت الأيام دورتها وأصيبوا كما يُصاب عموم الناس، وقد ظنوا أن الأيام ليست دولًا، ونسوا أنهم قد يُصابون كما يُصاب الجميع، فلم يحفظوا الود لجيرانهم أو حق الرحم لأقربائهم، بل بدت نذالتهم وفقدوا مروءتهم، وضاعت إنسانيتهم مع الأحداث..
لا ننكر على من قُتل أبوه أو أخوه أو اغتُصبت أخته أن يفرح لمصائب القتلة أو المحرضين أو المؤيدين، فهذا لم ينكره الشرع، بل هو حكم الله لصالحه فى قضية عادلة قاضيها هو الله، الحكمُ العدل، لكن ننكر عليه الدخول على صفحات الموتى من هؤلاء والجهر بالشماتة بهم وبذويهم؛ فإن هذا مما يزيد الفرقة، وينكأ الجراح، ويولّد العداوات، ليس للشخص صاحب الرأى فقط، بل للدعوة نفسها، وللتيار كله، بل ربما انتقلت العداوة لدين الإسلام، وهذا ما لاحظته من ردود شباب الطرف الآخر.
إن المرأة الثكلى التى قُتل ابنها يوم رابعة فاستقبلتها جارتها في مدخل العمارة والناس يحملون جثمانه، وبدلاً من مواساتها تقول لها: (فى داهية يا حبيبتى وعقبال ابنك التاني) -لا تطلب منها الترحم على من مات بالكورونا وكان مؤيدًا لهذه التصفية ولهذا التشفى، بل اطلب من الذين يؤيدون النظام حتى الساعة -رغم فشله وتبعيته وفساده- أن يكفوا عن استفزازهم، وأن يراجعوا أنفسهم، وكفى هذا الاتباع الأعمى، وليتعظوا بهذه الكارثة التى حلت بالجميع.
دخلتُ على صفحة ممثلة “كومبارس” أبلغت عن شابة بريئة فحبستها؛ لأنها -أى الفتاة- شمتت فى موت (جنرال) مات بالكورونا، فاستحقرتُ “الكومبارس” لما وجدت من كذب وتهويل، وعاتبتُ الفتاة؛ لأن الأولى ارتكبت أكثر من جريمة ويمكن وصفها بالعنصرية، أما الثانية فقد خانها التقدير، وقدمت العاطفة على العقل. دخلت كذلك -لأتعرف إلى أين وصل الاشتباك- على صفحات أول حالة تموت بالكورونا فى القاهرة، وطبيب بورسعيد، والفتاة خريجة العلوم، وجميعهم مؤيدون للانقلاب، فراعنى حجم الانقسام، وراعنى كذلك التغييب الذى عليه الطرف الآخر؛ إذ لا يزالون يدافعون عن النظام، وكأنه لم يصلهم انتهاك حرمات الموتى والاعتداء على جثامين العائدين من رابعة للدفن فى قراهم، أو لم يصلهم أن جيرانًا أجْلَوا جيرانًا لهم من بيوتهم، وأن بيوتًا وسيارات أُحرقت، وأن دماء استُبيحت، وأن آلافًا فقدوا وظائفهم، ومثلهم مطاردون، غير -بالطبع- آلاف الضحايا والشهداء، ونحو سبعين ألف معتقل.
في ظل إعلام فاسد ونظام مستبد ونخبة لا رأى لها يبقى الجهل هو المسيطر، ويبقى الانقسام سائدًا، مهما نصح الناصحون؛ إذ هناك قطاع كبير من الطرف المعتدِى لا تقنعه النصيحة، إنما يقنعه صورة “الدكر” يطلع عليها كل يوم فتروى عطشه وتسد مسغبته، كما لا تكفيه المصائب التى حلت بنا. والمتابع لصفحات من ماتوا يجد تحديًا عجيبًا، ويجد إصرارًا على تأييد الباطل من قبل أصدقائهم، فلا بد إذًا من التخلص من سبب هذه البلوى، الخاسر فيها هو الوطن؛ بالتخلص من هذا النظام العنصرى.
أضف تعليقك