• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

كانت محرّكات طائرة مصر للطيران، الرابضة على أرض مطار العاصمة المجرية، قد دارت استعدادًا للإقلاع، فيما كان الركاب من المصريين العالقين هناك قد أنهوا إجراءات عودتهم إلى القاهرة، وقبل لحظات من صعود الطائرة نادى منادٍ أن على كل راكب أن يسدّد ثمن الإقامة في فنادق الحجْر الصحي المصرية (أكثر من عشرين ألف جنيه) قبل أن يُسمح له بالركوب.

منطقيًا، يفترض أن العالقين في الخارج إنما فكروا في العودة إلى حضن الوطن لأسباب تتعلق بانقطاع السبل ونفاد المال، غير أنه في ظل نظام لا يجد في جائحة كورونا سوى فرصة استثمارية واعدة، تحوّل حضن الوطن إلى بوتيك، وصارت حقوق المواطنة سلعة تخضع للعرض والطلب، تباع بأسعار مضاعفة.

حسب طلابٍ كانوا يمنون النفس بالعودة إلى مصر قبل حلول شهر رمضان، انتهى الأمر بأن أقلعت الطائرة متجهة إلى القاهرة، من دون ركاب، أو زبائن كما تنظر الحكومة المصرية إلى مواطنيها وقت الأزمة.

قبل أسابيع من هذا المشهد، كان مصريون قد وصلوا إلى مطار القاهرة قادمين من لندن والكويت، وفوجئوا بأن المطلوب منهم سداد تكاليف الإقامة الفندقية في الحجْر الصحي على نفقتهم الشخصية، فرفض الركاب وأثاروا المشكلة على مواقع التواصل الاجتماعي، وشاهد العالم كله كيف تتاجر حكومةٌ بالوباء وتبتزّ به مواطنيها، وأسدل الستار بلقطة سينمائية ركيكة، فحواها أن الزعيم تدخل لتتحمّل الدولة نفقات الإقامة.

والحاصل أن "الدولة" تعلمت من هذا الموقف، وقرّرت أن تستعمل مكر التجار ودهاء السماسرة والمهرّبين فيما هو قادم، فاشترطت على الباحثين عن العودة دفع قيمة الإقامة السياحية في الحجْر الصحي قبل ملامسة سلم الطائرة بواقع 1500 جنيه مصري لليلة الواحدة، كي تضمن أرباحها من الوباء، ومن لا يدفع المبلغ كاملًا فلا مرحبًا به في وطنه.

لا يتوقف الاستثمار في الوباء على الجانب الاقتصادي والسياحي بالطبع، بل يأتي قبل ذلك الاستثمار التشريعي، بحيث تتم إعادة هندسة القوانين والتشريعات، بما يضاعف من سلطات الحاكم العسكري المطلقة، ويجعلنا بصدد وضعية نادرة في تاريخ علاقة الدول بشعوبها، حيث في كل مكان في العالم المتحضر يختار الشعب من يحكمه، وإن اختلفت نسب المشاركة في الاختيار، من دولةٍ إلى أخرى، إلا مصر التي تنفرد بنمطٍ عجيبٍ من الطغيان، يمنح الحكومة في انتخاب أو اختيار مجموعة من البشر، أو شريحة محددة من الجماهير، دون سواها، لتحكمهم وتتحكّم فيهم، بينما بقية الشعب أعداء منبوذون، تحاربهم بكل أدواتها، وتحرّض عليهم تلك الشريحة التي اختارتها، ومنحتها لقب "الشعب".

لا يتحمّل نظام الاستبداد العسكري أن يكون ضمن الشعب الذي يحكمه مدنيون يزعجونه بالكلام عن الحقوق السياسية والاجتماعية والحرية والديمقراطية، وغير ذلك مما يعتبره أهل السلطة مسًّا بثوابت الدين ومقتضيات أمن الوطن. ولذلك ليس أفضل من لحظة الانشغال بخطر فيروس كورونا لكي تمتد اليد الغليظة إلى التشريعات، لتعدّل فيها وتبدّل بما يحقق مزيدًا من العسكرة، فتصدر الأوامر إلى ما يسمى "البرلمان" لكي يمرر تسعة قوانين في ضربة واحدة. وبحسب التقرير المنشور في "العربي الجديد"، هي سابقةٌ لم تشهدها المجالس النيابية المصرية عبر تاريخها، أن يقرّر رئيس مجلس النواب التصويت على تسعة مشاريع قوانين مقدّمة من الحكومة "جملة واحدة" نداءً بالاسم، بالمخالفة لأحكام الدستور، واللائحة المنظمة للبرلمان، وذلك بحجة عدم تزاحم النواب داخل القاعة الرئيسية، والحفاظ على المسافات الآمنة بينهم، في إطار الإجراءات الاحترازية الهادفة إلى منع تفشّي فيروس كورونا.

في موقع "اليوم السابع" التابع للنظام، تقرأ في اليوم ذاته تفاصيل تعديلات قانون الطوارئ لمواجهة كورونا على النحو التالي "يُستبدل بنصي المادة (4/ فقرة 1) والمادة (7/ فقرة 4) من قانون حالة الطوارئ الصادر بالقانون رقم 162 لسنة 1958 النصان الآتيان:

مادة (4/ فقرة 1): تتولى قوات الأمن أو القوات المسلحة تنفيذ الأوامر الصادرة من رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه، فإذا تولت القوات المسلحة هذا التنفيذ يكون لضباطها ولضباط الصف بها اختصاصات مأموري الضبط القضائي.

وتختص النيابة العسكرية بالتحقيق في الوقائع والجرائم التي يتم ضبطها بمعرفة القوات المسلحة. ويجوز لرئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه أن يسند الاختصاص بالتحقيق الابتدائي في الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام هذا القانون إلى النيابة العسكرية".

هذه اللوثة التي تعتري النظام استثمارًا في كورونا، لم تتوقف عند العبث بالتشريع والقانون، أو التربّح التجاري، فقط، بل تتخذ أشكالًا أكثر انحطاطًا، حين تقتحم الأقدام الباطشة منازل النساء، وتمتد الأيادي السوداء لانتزاع سيدات وفتيات من بين أسرهن، وتختطفهن إلى المجهول، كما جرى في القاهرة، مع مروة عرفة  الباحثة المثقفة ذات السبعة وعشرين عامًا التي اختطفت من زوجها وطفلتها التي لم تكمل عامين، وتكرّر في الإسكندرية مع خلود سعيد الباحثة ورئيس قسم الترجمة في إدارة النشر التابعة لمكتبة الإسكندرية.

أنت هنا بصدد حالةٍ لا تنتمي إلى الاستبداد والطغيان في الحكم، بقدر ما تعبر عن انسلاخ كامل من أي مبدأ أخلاقي أو قيمة إنسانية، وتنتمي بالكلية إلى عالم الإجرام السفلي.. منطق وسلوك لم أجد لهما نظيرًا إلا في دراما الاستبداد المتسربل في الفساد والإجرام، كما صاغها أسامة أنور عكاشة في مسلسله العلامة "الراية البيضاء" قبل ثلاثة عقود، من خلال شخصية المعلمة فضّة المعداوي التي أدت دورها باقتدار الفنانة سناء جميل، مجسّدة رحلة انتقال من قاع الانحطاط إلى قمة السلطة والنفوذ، لتدهس بقدميها القانون والتاريخ والتراث الثقافي والحضاري، وتفرض قانونها الخاص، حيث تحرّكها طوال الوقت كراهيتها المتجذّرة في أعماقها لكل ما هو متحضر وإنساني ونبيل، ويدفعها احتقارها الثقافة والفن إلى السعي، بكل الوسائل الإجرامية، إلى إخضاعهما لقوانين خاصة بها، ويعاونها رجال قانون فاسدون، ومثقفون أكثر فسادًا، فتندفع، مدجّجة بقوة الفساد التشريعي والإداري، لهدم كل معلم حضاري أو أثر ثقافي، لتكريس قيم سوق السمك، بما تحتوي عليه من كل صور الفساد المسلّح بالثروة والجبروت.

في أحد مشاهد المسلسل، تستخدم فضّة المعداوي نفوذها، فتستصدر في يوم واحد خمسة قرارات إدارية وقضائية بتملك أحد معالم الإسكندرية التاريخية، لكي تهدمه وتحوله إلى برج سكني وتجاري متعدّد الطوابق، تمامًا كما يمرر برلمان عبد الفتاح السيسي تسعة قوانين في يوم واحد.

غير أن ثمة فرقًا مهمًا، ذلك أن جرّافة فضّة المعداوي تراجعت عن افتراس أجساد الجماهير التي افترشت الأرض كي لا تهدم القصر الأثري، بينما جرّافات النظام الحالي مضت منتشية وسعيدة فوق أجساد آلاف الجماهير التي احتشدت في ميدان رابعة العدوية، ضد هدم ديمقراطية وليدة وإحراق ثورة.

أضف تعليقك