• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

المسلم الحق حياته كلها لله، لا يعرف الكلل ولا الملل جد ومثابرة تضحية ومكابدة، وبذل للنفس والنفيس، يخرج من طاعة إلى طاعة, ومن جهاد إلى جهاد, ولسان حاله يقول: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الأنعام:162)، إذا استيقظ فيقظته عبادة وإذا نام فنومه عبادة، هدفه الأسمى تحقيق مراد الله عز وجل من عباده: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذريات:56).

المسلم الحق في سيره إلى الله تعالى لا يعرف الراحة في الدنيا؛ لأن راحته الحقيقية عند لقاء ربه، بل أكثر من ذلك يقول الصديق رضي الله عنه: "لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدميّ في الجنة".

المسلم الحق لا يعرف سفاسف الأمور, وإنما يخرج من عمل صالح إلى عمل صالح, ومن تضحية إلى تضحية متأسيًّا ومتمثلاً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخرج معنا إلى حمراء الأسد إلا من أثخنته الجراح في أحد".

المسلم الحق يلحق الطاعة بالطاعة، إذا فرغ من الصلاة ذكر الله كثيرا، قال الله تعالى: "فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُم" (النساء: من الآية: 103), وإذا فرغ من الحج ذكر الله: "فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً" (البقرة: من الآية: 200).

المسلم الحق في سعي دائم إلى الله عز وجل, وسعيه هذا متدرج ولسان وحاله ينطق "وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى" (طه: 84), ففي سبيل الرزق والبحث عن العيش يقول له ربه: "فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ" (الملك: من الآية: 15)، ثم يحثه ربه أعلى من ذلك في العبادة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ" (الجمعة: من الآية9), ثم يتدرج أكثر حين يتعلق الأمر بالمغفرة والوعد بالجنة، فيقول تعالى: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ" (آل عمران: من الآية: 133) "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ" (الحديد: من الآية:21)، ثم يصل الأمر إلى ذروته حين يأمره ربه "فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ" (الذاريات: من الآية: 50).

ولأن الجزاء من جنس العمل فإن الذي ينصب في الدنيا ابتغاء مرضاة ربه يرجو مولاه عز وجل أن يعافيه من النصب في الآخرة، جاء في الحديث القدسي في معرض بشارة الله لأمنا وأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أن الله بشرها بقصر في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

والمعافاة من النصب في الآخرة هي موعود الله تعالى لعباده المؤمنين، استمع إلى قوله تعالى: "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ* الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ" (فاطر: 34-35).

هذه المعاني العظيمة علمنا إياها رسولنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم وهو خير من قام بها وطبقها، يتنزل عليه الوحي في بدايات الدعوة: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ* وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ* وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ" (المدثر:1-7).

وأيضًا "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا*ً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً" (المزمل:1-5)، غاية الوضوح في الرؤية وبيان لعظم التبعة والمسئولية وهي هداية البشرية كلها وتعبيدها لله تعالى، حقًا إنها أمانة ثقيلة، ولذلك كان قوله صلى الله عليه وسلم  للسيدة خديجة رضي الله عنها: "مضى عهد النوم يا خديجة"، يا سيدي يا رسول الله متى كان النوم؟! فماذا نقول نحن إذا كان هذا حال قدوتنا وسيدنا.

يقول د. عمر بن عبد الله المقبل في تبيان معنى قول الله تعالى: "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ* وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ" (الشرح:7-8): إنها أصل من الأصول التي تدل على أن الإسلام يكره من أبنائه أن يكونوا فارغين من أي عمل ديني أو دنيوي.

يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إني لأمقت أن أرى الرجل فارغًا لا في عمل دنيا ولا آخره"، وكم نرى في هذه الأيام من الفارغين المعطلين الذين لا هم لهم ولا شغل إلا البطالة والعصيان وعدم العمل وإن شئت فقل (تعطيل المراكب السايرة).

أحبتي في الله، هذه القاعدة العظيمة (فإذا فرغت فانصب) لها ضرورات ومتطلبات نذكر منها:

أولاً: علو الهمة.. الذي يكابد النصب في الدنيا لا بد أن يكون عالي الهمة لا يرضى بسفاسف الأمور؛ لأنه يعلم أن دعوة الله عز وجل لا يقوم بها إلا أصحاب العزائم لا أصحاب الرخص, بل إنه إذا سأل الله سأله الفردوس الأعلى من الجنة، هل ترضى أن تكون أقل همة وعزيمة من عجوز بني إسرائيل التي اشترطت على سيدنا موسى عليه السلام مرافقته في الجنة حتى تخبره بالمكان الذي دفن فيه سيدنا يوسف عليه السلام؟!! يذكر الإمام البنا أن من خصائص الفئة التي تدعو إلى تكوين وتربية الشعوب أن تتمتع بعزيمة صادقة لا يتطرق إليها ضعف ولا وهن.

يقول المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم ***** وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتكبر في عين الصغير صغارها ***** وتصغر في عين الكبير العظائم

ثانيًا: المسارعة إلى فعل الخيرات وإنجاز المصالح وعدم تأخير عمل اليوم إلى الغد، ولنا في قصة سيدنا حنظلة المثل الأعلى في ذلك، يقول الإمام الشهيد رحمه الله: "إذا كان لك حاجة فأنجز في قضائها؛ لأن الواجبات أكثر من الأوقات"، ويقول أيضًا: "قم إلى الصلاة متى سمعت النداء".

ثالثًا: من متطلباتها أيضًا أن يكون حال المؤمن دائمًا في زيادة، غده أفضل من يومه؛ لأن من تساوى يومه مع أمسه فهو مغبون.

رابعًا: اغتنام الفرص واهتبالها، فقد لا تأتي مرة أخرى.

خامسًا: من متطلباتها كذلك أنها تنمي في المؤمن حس الترقي في درجات الإيمان, وفي مراتب الفضل؛ لأن السائر إلى الله دائمًا وأبدًا في عمل دؤوب مستمر، وإذا كان في مرتبة صلاح استغفر الله تعالى على ما كان عليه من تقصير في المرتبة السابقة وهي مرتبة صلاح أيضًا.

سادسًا: الثبات على المبدأ والاستمرار في العطاء والبذل قال تعالى: "وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ" (الحجر: 99).

سابعًا: الانطلاق نحو الغاية الكبرى لنشر دعوة الله تعالى وعدم الانشغال بما يريده ويدبره المعطلون والكائدون والمتربصون:

"فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ" (الحجر:94).

هذه المعاني عاشها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم وسادوا بها الدنيا وفتحوا بها الأمصار وسار على دربهم التابعون وتابعو التابعين.

ولا عجب أن نرى إمامنا الشهيد وقد اقتدى بهم وحذا حذوهم, والذي كان على نصب دائم في سيره إلى الله فأنشأ هذه الجماعة المباركة التي نسأل الله أن تكون على درب النبوة محققة قول الله عز وجل: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108).

وأخيرًا تأمل إجابته حين سأله أحد الصحفيين من أنت؟ فقال "أنا سائح يبحث عن الحقيقة, وإنسان يفتش عن الإنسانية في الناس بمصباح "ديوجين", أنا متجرد أدرك سر وجوده فنادى في الناس: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الأنعام:162).

أخي الحبيب، هلا نصبت في الدنيا حتى تنعم بالراحة في الآخرة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أضف تعليقك