بقلم.. د. أحمد ذكر الله
أجبرت التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا الحكومات في كافة قاع المعمورة على اتخاذ مجموعة من التدابير الاقتصادية لمواجهة الجائحة، وحاولت الدول أن تراعي في هذه التدابير التوازن بين تنشيط العملية الإنتاجية والجانب الاستثماري من جهة، والحفاظ علي حقوق العمال والفئات المعوزة من جهة اخري، وبما يضمن استمرار القوي الاستهلاكية التي تدعم استمرار دوران عجلة الإنتاج.
تصادف مع هذه الاحداث الجسام أن يحين موعد الإجراءات الرسمية لإقرار الموازنة العامة المصرية للعام المالي الجديد، فتوقع الجميع ان تبتعد الموازنة المصرية عن تحيزها المعتاد ضد الفقراء، لا سيما بعد تحقيق الموازنة وفورات كبيرة بسبب انخفاض أسعار النفط خلال النصف الأخير من الموازنة الحالية، حيث وفرت الموازنة نسبة 65% بما يزيد على 27 مليار جنيه، من جملة دعم التسعة الأشهر الاولى للمحروقات.
وفي الآونة الأخيرة أشار وزير المالية إن الحكومة ستلجأ إلى إجراءات تقشفية، في حال استمرار تداعيات أزمة فيروس كورونا، من خلال مراجعة أو تجميد بعض بنود المصروفات في الموازنة العامة الجديدة، وفي تفسيرهم لذلك أكد مسؤولون من وزارة المالية إن المقصود بذلك هو المزيد من تخفيض الدعم المقدم إلى منظومتي الخبز والسلع التموينية في الموازنة الجديدة، والمخفض أساسا الي نحو 78.9 مليار جنيه بدلا من 89 مليار جنيه في الموازنة الحالية.
ويأتي هذا الخفض رغم ضخامة عدد المستحقين لدعم المقررات التموينية والبالغ 63.5 مليون مواطن، وعدد مستحقي الخبز المدعم البالغ 70 مليون مواطن، وهذا يعني ببساطة أن هذا الدعم الذي ترمي الحكومة الي تخفيضه يخدم ثلثي المواطنين، ورغم أن 32% منهم يقبعون تحت خط الفقر طبقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، و27% منهم حول خط الفقر طبقا لبيانات البنك الدولي.
إلى صفر:
ولم يكتف مشروع الموازنة بذلك، ولكن امتدت تخفيضات الدعم الي مجموعة أخري من البنود، ومنها تخفيض 47% من دعم المواد البترولية، كذلك خفض دعم الكهرباء إلى (صفر)، وهو ما يعني تحرير أسعار بيع الكهرباء للمواطنين، وكذلك دعم نقل الركاب.
وبينما تقتر الحكومة على الشريحة الكبرى من المواطنين المستفيدين من الدعم، نجدها تسرف في زيادة المخصصات لبعض الشرائح التي تمثل الطبقات الأعلى دخلا في المجتمع المصري، حيث زاد بند "المصروفات الأخرى" الذي يشمل المخصص لميزانيات الدفاع والأمن القومي، ووزارة الخارجية، والجهاز المركزي للمحاسبات، ومجلس النواب"، في مشروع الموازنة الجديدة من 90 مليار جنيه إلى 105 مليارات جنيه، أي بما يقارب 15 مليار جنيه، وهذه الزيادة للعام الثاني على التوالي بنفس المبلغ.
كما زادت الحكومة من مخصصات باب “قطاع النظام العام وشؤون السلامة العامة” الذي يشمل خدمات الشرطة، والسجون، والحماية ضد الحريق، والمحاكم، ووزارة الداخلية، ووزارة العدل، والمحكمة الدستورية العليا، والهيئات القضائية، ودار الإفتاء المصرية، وصندوق تطوير الأحوال المدنية، وصندوق أبنية المحاكم، وصندوق السجل العيني، من 69 ملياراً إلى 78 ملياراً في الموازنة الجديدة.
وتشير ارقام الزيادة في مخصصات أذرع السلطة الي انها أكبر من الانخفاض في مخصصات الدعم الموجه لدعم السلع التموينية، بالإضافة الي دعم الكهرباء، كما أن هذه الزيادة تساوي تقريبا مجموع الدعم الموجه الي المزارعين" والمقدر بـنحو 665 مليون جنيه، والتأمين الصحي والأدوية" والمقدر بنحو 3 مليارات و599 مليون جنيه، وتنمية الصعيد" المقدر بـنحو 250 مليون جنيه، ونقل الركاب المقدر بنحو مليار و800 مليون جنيه.
كما جاءت الزيادة الهزيلة في مخصص برنامج تكافل وكرامة من 18.5 الي 19 مليار جنيه فقط، كاشفة عن تجاهل الدولة لهذه الفئات المعوزة، ومن الجدير بالذكر أن هذا البرنامج يحصل من خلاله المواطن علي أقل من 20 دولار شهريا فقط، وانشئ في الأساس بطلب من صندوق النقد الدولي لمواجهة تداعيات برنامجه على فقراء مصر.
زيادة هزيلة:
وكانت الحكومة قد اقرت زيادة هزيلة اخري تبلغ 500 جنيه شهريا لمدة 3 أشهر لعمال اليومية والمقدر عددهم بحوالي خمسة ملايين عامل وفقا للإحصاءات الرسمية، وأكثر من 10 ملايين عامل طبقا لتقديرات أخري، وهو مبلغ لا يكاد يكفي مصروفات اسرة فقيرة لأسبوع واحد فقط، ورغم هزلية المبلغ لم تستجب الحكومة للكثير من البسطاء الذين طالبوا به.
كما قررت الحكومة زيادات هزيلة لمرتبات الاطقم الطبية، لا تتعدي 700 جنيه شهريا، وبتكلفة اجمالية على الموازنة أقل من 2.5 مليار جنيه، رغم علمها بهروب أكثر من نصف أطباء مصر إلى العمل بالخارج نتيجة لتدني الأجور وتجاهل الدولة لمطالبهم، هذا بالإضافة الى خفض علاوة معاشات المدنيين بنسبة 1% مقارنة بالعام الماضي، في مقابل إقرار قانون بالزيادة الحادية عشرة في خمس سنوات لمعاشات العسكريين بنسبة 15% ولمدة خمس سنوات متتالية.
وحتى عندما قررت الحكومة المصرية خصم 1% من مرتبات موظفي الدولة لمساندة إيرادات الدولة المتوقع انخفاضها، لم تراع التفرقة المنطقية بين أولئك الذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور البالغ 2000 جنيه فقط، وبين آخرين يتقاضون عشرات بل مئات الالاف من الجنيهات شهريا.
توضح الأمثلة السابقة وغيرها الكثير مما لا يتسع المقال لسرده، كيف تتحيز الحكومة المصرية في نفقاتها العامة إلي فئة محدودة من المجتمع، على حساب الشريحة الواسعة من المواطنين، وان ادعاء الفقر والعوز لا يكون الا في مواجهة احتياجات البسطاء بينما تبسط الحكومة يدها كل البسط لتلبية مطالبات فئات أخري، بما يترتب عليه الكثير من الاثار السلبية اجتماعيا واقتصاديا، بداية من تهديد السلم الاجتماعي، ونهاية بتغييب قوي استهلاكية ضخمة كانت قادرة حال وجودها على إدارة عجلة الإنتاج للمستثمر المحلي والاجنبي.
انعدام التوازن:
واجهت تداعيات كورونا السلبية جميع الاقتصادات في العالم، ولكن انعدام التوازن التنموي بين الأقاليم المصرية، وتصميم السلطة على تغييب العدالة بين المستفيدين من الموازنة العامة، واستسهال جيوب البسطاء باعتبارها مصدرا تعويضيا للانخفاض المحتمل في الايرادات العامة، والتقتير علي الفقراء، ورفع الدعم عن الغالبية العظمي للمواطنين، كلها خصائص للاقتصاد المصري الذي يعاني أيضا الريعية والتبعية والاختلال الهيكلي المزمن، وكل هذه الخصائص كانت تفرض عدالة ولو مؤقتة في ظل الجائحة الحالية، وتغييب هذه العدالة ربما يدفع ثمنه المجتمع كله وليس الفقراء فقط.
أضف تعليقك