• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

جمال الجمل
(1)
عبد الفتاح السيسي ليس مجرد جنرال أو حاكم، لكنه واحد من الأنبياء الذين يصنعون المعجزات: يلقي عصاه فتبتلع بلدا بكل من فيه، ويضع يده في جيوب المواطنين فتخرج بيضاء من غير فلوس (الجيوب طبعا)، كما أنه يميت الأحياء ويخفيهم عن العيون ويُحيي الموتى!

(2)
ولعل كرم جبر أوضح تجسيد لمعجزة السيسي الكبيرة في إحياء الموتى، فبعد ثورة يناير مات اسم "كرم جبر" وودعه المشيعون في مؤسسة "روز اليوسف" بالنعال، وظل الراحل مجرد جثة راقدة في قبر النسيان، حتى استخرجها السيسي وأعاد إليها الحياة، ليثبت أن عصر مبارك حي لا يموت، وأن رجال مبارك وأجهزته الأمنية من أولياء الدولة الصالحين!

(3)
كرم جبر.. لا تسال عن السعر، اسأل عن فخامة الاسم وروعة التصنيع.

فالسلطة حاجة جميلة، حلمك لو يوم يلمسها تديك أكتر ما بتحلم، السلطة بتعرف ناس، واللي بتفوته بيندم.

لهذا يغني مكرم محمد أحمد الآن (كما سيغني جبر لاحقا): السلطة بنت لعوب راكبة عجلة ببدال.. السلطة بتحرق ناسها، لو ننده مابتسمعش، أصلها بتسد ودانها، لو راحت ما بترجعش، أصلها بتروح على طول..!

(4)
يحكى أن السادات قرر تصعيد تحولاته الدراماتيكية بعد انتصار أكتوبر، فبدأ يرتب للانفتاح التسليعي، والاتجاه يمينا للطرف الأمريكي، وفتح طريق التفاوض مع إسرائيل. وكان يعرف جيدا أن هذه التحولات تحتاج إلى تكسير لعمل الطلاب السياسي في الجامعات، كما تحتاج إلى تفكيك النقابات والحركة العمالية، والأهم أنها تحتاج إلى إطفاء أنوار الصحافة المشاكسة، وقتل الإعلام بالسم البطيء، فأصدر لائحة 1976 الطلابية، وشرع في حصار العمال وتعيين رجال الموالاة ومخبري الأجهزة الأمنية في الصحف.

لكنه فوجئ في مطلع عام 1977 بانتفاضة شعبية كبيرة يقودها العمال والطلاب، وأصيب بصدمة مؤقتة وحالة من الفزع، وبعد أن تمكن بدعم الدولة البوليسية من قمع الانتفاضة التي أطلق عليها "انتفاضة الحرامية"، وجد بعض الصحف تستخدم مصطلح "انتفاضة الخبز"، فبدأ بترتيب أوضاع الصحافة كما يريدها لخدمة تحولاته، وطلب من الأجهزة الأمنية ترشيحات بالأسماء الموالية الموثوق بها، لكي "يهندس" عملية تغيير القيادات الصحفية بنفسه، خاصة أنه عمل في المجال ويعرف عنه الكثير. وعندما وصلت إليه كشوف الأسماء، بدأ يسأل عن المرشحين الجدد وحيثيات ترشيحهم، وتوقف أمام أحد الأسماء المرشحة لمجلة قومية، فقيل له؛ إنه صحفي مأمون الجانب، لكن لديه مشكلة عائلية محرجة لسمعته.

سأل السادات باستنكار: ما هي مشكلته العائلية التي تعطل توليه رئاسة التحرير؟

قالوا: زوجته قوية ومتسلطة عليه، سلوكها محاط بالشبهات، وهو يعرف ويصمت ولا يجرؤ على الاعتراض.

فقال السادات: مكسور يعني؟!.. هو ده.. مش هيقدر يرفع صوته علينا!

(5)
استعرض السادات كل الأسماء المرشحة من الجهات الأمنية، ولم يجد اسم الصحفي "عبد العزيز خميس"، فطلب إضافة الاسم (لكي تبدأ روعة التصميم والتصنيع).

ولمن لا يعرف خميس، كان محررا مغمورا في مؤسسة "الأخبار" يشكو من الإهمال وسوء الأوضاع، فكتب خطابا يناشد فيه زميله القديم أنور السادات (كان عضوا مع السادات في الجمعية السرية التي نفذت اغتيال أمين عثمان، وكان دوره في عملية اغتيال وزير المالية القديم يتطابق تماما مع المطلوب منه في اغتيال مصر كلها.. مجرد "ناضورجي" ومخبر يبلغ قيادته بالتقارير، فانضم لجمعية النهضة التي أسسها أمين عثمان وبدأ يرصد تحركاته، وهو ما كان يرتب السادات لتعميمه في الوسط الصحفي كله!).

ولما عادت التقارير الأمنية بعد التنقيح، وجد السادات عدة سطور تقول إن خميس "صحفي ضعيف وسطحي، وإذا تولى أي صحيفة سيهبط توزيعها إلى الحضيض، لكنه من الموثوقين البعيدين عن المعارضة اليسارية، فابتسم السادات وهمس بصوت مسموع: أغبياء.. هو ده المطلوب، وبعد أسبوعين (في ربيع 1977) جاء موعد "العرض الكبير"...!

(6)
لم يكن السادات ممثلا فقط، لكنه كان كاتبا للسيناريو ومخرجا، وقد أفصح بنفسه عن ذلك في رسالة موثقة أرسلها إلى شركة الممثلة "أمينة محمد" للحصول على دور في أحد أفلامها.

وقبل أن أقدم لكم فصلا من المسرحية، التي تُعرض حتى الآن من بطولة السيسي وأجهزته الأمنية، نستمتع معا بوصف السادات لنفسه في الرسالة التي أرسلها لمكتب الممثلة، ومختصرها: "أنا أنور السادات أفندي، 4 شارع أبو وصيف بمنطقة كوبري القبة، شاب طويل، رفيع الوسط جدا، صدري مناسب، سيقاني قوية، متحكم في صوتي جدا، أقلّد صوت يوسف وهبي كما أقلّد صوت أم كلثوم، وهذه خاصة نادرة. أذني موسيقية، ذوقي سليم في الحكم على إخراج الروايات وعلى مواضيعها....".

الطريف أن الرسالة نشرت في إحدى المجلات القديمة في الشهر نفسه، لكن قبل 42 سنة بالتمام، من اليوم الذي كان السادات يُعد فيه لإخراج مسرحية التغييرات الصحفية على مقاس تحولاته في أيار/ مايو 1977.

وفي استراحة القناطر التي كانت مسرحا لمعظم بروفات السادات، اجتمع الرئيس بالأسماء المدعوة من الرئاسة. وقد جمعت المسؤولين القائمين على الصحف والمجلات، مع المرشحين الجدد، وحاشية الرئيس في الوسط الذي عمل به لسنوات. وكان الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي قد استقال قبل أسبوعين من مجلس إدارة "روز اليوسف"، لأن السادات أصدر قرارا بتعيينه سكرتيرا عاما للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، في مبادرة سلام لإبعاده عن إدارة الصحف ومجاملة له في الوقت نفسه على دعمه للسادات في حركة 15 أيار/مايو، ضد رجال دولة عبد الناصر (مش عارف إيه حكاية مايو معانا؟!).

(7)
في ذلك الوقت، كان الصحفي الاشتراكي الشهير صلاح حافظ رئيسا لتحرير "روز اليوسف"، وكان متعاطفا مع انتفاضة العمال والطلاب في كانون الثاني/ يناير 1977، وبدأ السادات في أداء مسرحية الإبعاد والتقريب، وجاء الدور على حافظ، فقرّعه السادات على كتاباته الداعية للحوار بين الرئاسة والصحفيين وتوسيع الحريات، وأدان عدم الهجوم على المخربين الذين شاركوا في انتفاضة الحرامية. واختتم السادات "مسرحية التقريع" قائلا: كده أنت مش هتنفع معانا يا حافظ، السيد الجالس خلفك يقوم بالمهمة أحسن.

والتفت الجميع فإذا بالسيد المقصود هو "عبد العزيز خميس" الذي جمع بين إدارة تحرير "روز اليوسف" و"صباح الخير" معا، وصار مدير التحرير منذ ذلك اليوم هو رئيس أركان المجلة. وتم تعيين مرسي الشافعي لمجلس الإدارة والتحرير، ولما رحل الشافعي تولى خميس كل المناصب القيادية، ومن بعده جاء محمود التهامي وتحت إبطه عادل حمودة، ثم محمد عبد المنعم وتحت إبطه كمال في الميسرة وجبر في الميمنة.

هكذا انحدرت "روز" من إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وكامل زهيري والشرقاوي وفتحي غانم، وانحدرت في العموم كل الصحافة الحكومية والأمنية حتى وصلت إلى حضيض نجهله.

والسؤال: هل يذكر أحد منكم الآن صحفيا باسم عبد العزيز خميس؟

لقد نجحت خطة السادات؛ خطة الهبوط وقتل الصحافة، وما السيسي إلا "ريبرتوار" للمسرحية التي لا تنتهي أبدا.

#العرض_مستمر

 

أضف تعليقك